حسن العاني /
العمل الوظيفي أينما كان، في دوائر الدولة أو القطاع الخاص، لا يلبث بعد سنوات قلائل أن يصبح مدعاة للملل والقرف، بسبب الروتين المتواصل أسبوعاً بعد أسبوع وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام، مهما كان ذلك العمل مريحاً ومردوده المادي جيداً، ولعل بعض ما يخفف من منغصاته هو التغيير، إما بسبب تنقلات الموظف من هذه الوزارة الى تلك الوزارة مثلاً، أو ما يحصل عليه من ترفيعات ودرجات وظيفية يمكن أن تقوده الى “مكان” جديد أو الى تغيّرٍ في طبيعة عمله.. الخ
صديقي رافع الجبوري، كما أعتقد، هو الاستثناء الوحيد، فبعد أربعة عقود من التحاقه بوظيفته لم يشعر بالضجر أو الروتين أو الملل، ولم يفكر بالنقل او التقاعد.. هذا الرجل مازال في مكانه، في الموقع ذاته والعمل نفسه، وقبل ذلك مازال بذات الاندفاع والحماسة وكأنه في العام الأول من حياته الوظيفية وكأن بينه وبينها عشق غريب.. على أن اللافت للنظر في شخصيته لا يكمن في سنوات الخدمة الطويلة، وإنما في طبيعة تكوينته الإنسانية النادرة من ناحية، ونوعية أدائه الوظيفي من ناحية أخرى، فالرجل بحق أنموذج للعطاء والنزاهة والإخلاص وأكاد أجزم بأنني لم أقابل أحداً، أو أعرف مخلوقاً يحمل قلباً كبيراً مثل قلبه عامراً بالنبل وحب الآخرين والسعي ما وسعه السعي الى مساعدتهم طلباً لمرضاة الله وراحة الضمير..
الرجل لا يتباطأ في إرشاد أي مراجع الى السبل الصحيحة لإنجاز معاملته، ولا يتوانى عن متابعة بعض المعاملات بنفسه إذا وجد أصحابها مرضى أو كبار سن، حتى بلغ به الأمر الى أنّ المراجعين يقصدونه قبل أنْ يقصدوا غيره وإن لم تكن المعاملة من اختصاصه، ولذلك كانت غرفته مزدحمة بأعداد تفوق طاقتها لأن الجميع يسأل عن (عمو رافع)، لكن قمة التميّز في شخصيته الفريدة هو إيمانها بالقانون الى حد الهوس، القناعة بأن القانون وحده من يحقق العدالة ويضمن حقوق الناس، ولهذا كان زملاؤه يطلقون عليه لقباً ظريفاً (رافع قانون)، فقد كان الرجل منذ التحاقه بالوظيفة والى عامنا المبارك هذا، ينقل قناعته الى كل مراجع يشكو من الظلم أو تأخير معاملته، بأن القانون سوف ينصفه، لأنه فوق الفرد والجماعة والحزب، وفوق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورؤساء الكتل والوزراء، وقد عرّضته هذه الأفكار عبر مسيرته الطويلة الى الكثير من الإشكالات والمتاعب، ولكن قناعته ظلت راسخة.
بحكم صداقتنا الوطيدة التي اتسعت من العلاقة الفردية الى العلاقة الأسرية، كنت أتفقد الرجل في زيارات متباعدة الى مقر عمله لا تتعدى دقيقتين أو ثلاثاً كونه لا يستطيع أن (يحك رأسه) كما يقال، والحقيقة ما من مرة زرته إلا ورأيته يطمئن هذا المراجع أو ذاك ممن تلكأت معاملته أو تعرقلت مع أنها مستوفية للشروط، ويقول له (أكو قانون)، هذه هي العبارة التي لا تغادر لسانه كأنها اللازمة، ثم يشرح له كيف أن القانون فوق الغني والفقير والرئيس والوزير والجميع.. ولكثرة ما سمعت هذا الكلام فقد حفظت عبارة (أكو قانون) عن ظهر قلب!!
في مستهل العام الحالي زرته كالعادة زيارة خاطفة، ووجدته كما عهدته لم يتغير، شعلة من الحركة ومساعدة المراجعين، وكالعادة عرض عليه أحدهم معاملته المستوفية للشروط ولكنهم عرقلوها وطالبوه بدفع (الأحمر) –مصطلح متداول في بعض الدوائر، يُقصد به دفع رشوة قدرها 25 ألف دينار، لأن هذه الفئة من العملة العراقية تتميز بلونها الأحمر- وكدت أتطفل وأقول للمراجع (أكو قانون)، لولا إن صديقي كان أسرع مني وهو يردُّ عليه بصوت حزين: أكو الله!!