زعل الكبار!!

حسن العاني /

قبل بضعة أشهر أتمّتْ (ثورة التاسع من نيسان المجيدة) عامها السادس عشر، وهذا يعني أنها غادرت مرحلة الفطام والحضانة والروضة، وعبرتِ الدراسة الابتدائية والمتوسطة، ولم يبقَ بينها وبين سن الرشد والخدمة الإلزامية إلا إغماضة عين. ولابد من أن هذا الزمن الطويل قد أغناها بالعديد من التجارب الكبيرة، وتعلمت -على الرغم من أنها بطيئة التعلم- الشيء الكثير من إسطوانة حرية المرأة ومبادئ الديمقراطية وشرعنة الفساد والأصابع البنفسجية و”سالفة” التداول السلمي للسلطة.. وبغض النظر عما يمكن أن أن يقال وعن المسكوت عنه، فالحقيقة الأكيدة هي أن هذه الثورة لا تُشبه إلا نفسها، نتيجة ولادتها المتعسرة التي جرت بعملية قيصرية، وبحكم الأطراف التي قادتها وشاركت في تفجيرها من قوى وطنية وعلمانية ودينية وعميلة وليبرالية وطائفية، وباختصار لا يمكن لتجربتها إلا أن تنفرد بخصائص لا تتوفر لغيرها من التجارب الأخرى في العالم..
فهي على سبيل المثال لا تؤمن بثقافة الاستقالة، وديمقراطيتها تُحسِنُ الحوار والاستماع ولا تجيد التنفيذ، وتُعدُّ أكبر منتج للوعود، وتعتقد بأن ما هو لكَ وما هو لغيرك يجب أن يكون لك وحدك.. الخ، ولكنها تنفرد بتجربة فريدة، هي المعروفة باسم (التعبير عن الزعل) التي دوّختِ العالم والمحللين السياسيين، وآية ذلك أن أطراف العملية السياسية سواء أكانت في السلطة أو المعارضة، أم كانت متفرجة (إلا من رحم ربي) قد اختصّ كل طرف منها بأسلوب يواجهُ به خصومه الآخرين في حالات الانفعال أو الغضب بحيث يدركون أن صاحبهم (زعلان).. ولذلك فإنه بدلاً من الظهور بوجه عابس وخلقةٍ كئيبة، وكأنه خسر الصفقة الموعود بها أو لم يفلح بشراء المنصب الذي كان يحلم به.. يعمد إلى تخويف شركائه وحلفائه وخصومه عبر شاشات التلفزيون بما يمتلكه من عناصر قوة وأدلّةٍ تزعجهم أو ترهبهم. فهذا الطرف مثلاً يهدد بحكومة (الأغلبية) وعلى الشركاء أن يمسحوا أيديهم في الحائط، فلا وزارة ولا وكالة ولا مديراً عاماً ولا مدير مدرسة، وقبل ذلك لا مشروعاً ولا مقاولة، وذاك الطرف يهدد بالانسحاب من العملية السياسية، أو سحب الثقة عن الحكومة وإحالة أعضائها إلى التقاعد وجعلهم يتحسرون على أيام السلطة والنغنغة. وفيما يهدد أحد الأطراف بالمادة (140) والمناطق المتنازع عليها، ولا شيء تهتز له شوارب الحكومة مثل هذه المادة التي لم تمتْ ولكنها تعاني من الموت السريري، ومع ذلك فإنها أشبه “بمسمار جحا” في جسد الدولة العراقية، فإن الطرف الآخر يهدد بالكشف عن خبايا كتابة الدستور التي جاءت لخدمة جزء على حساب الكل، بحيث تم (تفصيل) فقراتها على أجساد الأذكياء من كتبة الدستور الذين استغلوا غفلة الآخرين لهذا السبب أو ذاك.. ومعروف بأن القانون لن يحمي المغفلين!
وبين هذا وذاك من صور (الزعل) وطرق التعبير عنه، لانعدم مَنْ يلوّح بالمادة (4)، أو تهمة أزلام صدام حتى لأعداء صدام، أو حكاية الاحتفاظ بملفات جاهزة يظهرها عند الحاجة، من دون أن يسأله قاضٍ أو ادعاء أو فخامة رئيس “يا أفندي.. ألا تدرك أن احتفاظك بملفات هو تستر على جريمة وخيانة للوطن” و.. وهناك من يُلمح أو يصرَح باللجوء إلى الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية.. إلى آخر القائمة الطويلة من التهديدات والتلميحات التي حكمتِ السلوك العام لأطراف العملية السياسية..
اللافت للنظر حقاً، هو أن هذا الزعل “الشفاف” كما يسخر البعض منه، والذي اتخذ طابع الغضب والعنف والتهديد، كان يجري على الفضائيات فقط، ونحن.. أعني (أولاد الخايبة) نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من إندلاع حرب، أو من فراغ دستوري (أنا الوحيد الذي لم أشعر بالخوف من الفراغ الدستوري منذ اكتشافي أنه لعبة ظريفة للضحك على البسطاء).. بينما أبطال الزعل وحلفاؤهم وخصومهم يجلسون معاً في مطاعم الخضراء أو كافتريا البرلمان وهم يتمتعون بنكهة القهوة مع الكرزات المستوردة والماكنتوش و.. ويتبادلون أحدث النكات عن العراق الجديد!!