د. حسن عبد راضي /
تستطيع يا ولدي أن ترافق ضيوفَك في شوارع بابل القديمة، وأن تُطلعهم بكل الفخر على بوابة عشتار التي حملت ألوان سماء مدينتنا البهيجة، ولهم كذلك أن يندهشوا وهم يحدقون في جدران شارع الموكب عن أَيمانِهم وشمائلِهم، حتى إذا بلغتَ بهم قريباً من أسد بابل الشامخ المنتصر، فلتحيّوه تحية الإجلال والمهابة، ثم سينحدر بكم الشارع جنوباً، مارّاً قرب سور الزقورة البابلية، وقرب القصر الملكي، جاعلاً بابلَ سماطين من المباني والقصور والبيوت الفخمة. لك يا ولدي أن تُريهم كيف سخّرنا الهندسة قبل ما يربو على ستة وعشرين قرناً لتكون بابلُ أعظمَ المدن وأرقاها وأكثرها تمدناً وانتفاعاً بالعلم، وكيف علّمنا العالم كله دروسَ الكيمياء وتزجيج الخزف وطلائه بأروع الألوان، وكيف علمناهم النحت البارز، وكيف مهّدنا الأرض وعبّدناها بالقطران أو بألواح الحجر الكلسي، حتى لو أن رجلاً بابلياً أعمى مرّ من هناك لما تعثر بشيء، لأنه لو تعثر لحُقَّ له أن يلعنَ الحاكم وجابي الضرائب ورئيس البلدية ومهندس الطرق ومعلم المدرسة.
استيقظتُ من نومي وأنا بين المندهش والحزين، فقد كان الصوت في الحلم صوت أبي، رحمه الله، لكن الهيئة كانت لرجل بابلي يرتدي أزياء قديمة، فلعل في الأمر ما يدعو إلى التفكر، أكان أبي يريد أن أفعل شيئاً لم تسعفه حياته القصيرة أن يفعله فيها، أم أن هذه الوصية هي وصية تاريخية عبرت حدود الأشخاص والأزمان، وصارت وصية لكل عراقي يعتقد أن بابلَ هي مدينته وإرثُ أجداده؟
حسناً.. ولكنني يا أبي استقبلتُ ضيوفي عام 2012 في مدينتك الأثيرة، وكانوا قد قدموا من أصقاع الأرض كلها، ليشهدوا مهرجاناً أقيم هناك بين ظهراني أطلالك وقصورك ومعابدك، فكنتُ أُحدثهم بحديثِ عظَمة بابل التاريخ، لأشغَلَهم عن رؤية بؤس بابل الحاضر، فأقول لهم إن الشاعر الإغريقي أنتيباتر الصيداوي، الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، وضع لائحة بعجائب الدنيا السبع، فكانت بابل المدينة الوحيدة التي ضمّت اثنتين منها، هما بوابة عشتار والجنائن المعلقة، فأشغلهم بهذا الحديث عن أن ينظروا خلال زجاج السيارة فيروا أكوام النفايات هنا وهناك، وكنتُ أشاغلهم بحديث شارع الموكب عن مطبّات شوارع بابل المعاصرة، وأتفاخر أمامهم بتقدم علوم الفلك عند العراقيين القدماء، لكي لا ينتبهوا “للفلك الصاير بينا”.
أبتاه.. لقد خذلناك في وصاياك، وتركنا إرثنا وكنوزنا نهباً للصوص والغزاة وعوامل التعرية، فنحن اليوم لا نتقن تسوية أرض لتكون شارعاً مستوياً، لأننا نضيف تراباً إلى الأسفلت لنملأ بطوننا من السحت الحرام، ولا نجيد تزجيج واجهة منزل لأننا نضع لوناً زائفاً فيبهت بسرعة البرق وتعود واجهات بيوتنا كالحة كأيامنا، وأن المبصرين يا أبتاه باتوا يتعثرون طوال الوقت في كل الطرق، لا العميان فقط.