حسن العاني/
في عام 1974، انجزت اثنتين من (أخطر) التجارب في حياتي، حيث خضت تجربة حب لا أروع منها ولا أحلى، قادتني بدورها الى تجربة زواج، اقترنت بأسوأ ايامي فقراً وحاجة. وكانت زوجتي (ابنة حلال) بحيث احتملت الحرمان وسوء التغذية وفقر الدم بصمت.. في مثل تلك الظروف سألني احد الاصدقاء ان كنت أرغب بالكتابة الى الاذاعة، ومع ان (الأجور) كانت متواضعة، ولكنها لوضعٍ مثل وضعي أشبه بهدية من السماء!! وهكذا بدأت اتعامل مع الاذاعة، وقد لاحظت ان مقالاتي موضع اهتمام، وهو الأمر الذي اسعدني، ولكن سعادتي الأعظم كانت يوم استدعاني مدير الاذاعة، لأن كتاباتي –كما بلغني- أعجبته كثيراً، وحين دخلت مكتبه، نهض من مكانه وصافحني بحرارة وهو يضحك قائلاً (هاي شنو.. طلع حسن العاني شايب)، مع إنني كنت في التاسعة والعشرين من العمر، وسبب سعادتي العظيمة ان الرجل عرض عليّ التنسيب من وزارة التربية الى وزارة الثقافة والإعلام، وكان هذا العرض أمنية فوق حلمي، و.. وجدت نفسي محرراً ومعداً لشتى البرامج، وأتقاضى أجوراً تزيد على راتبي في التعليم سبع مرات، وبدوري كنت (ابن حلال) وعوضت زوجتي عن سنوات الصبر والحرمان!
أشهد انني لم ألتقِ رجلاً ببساطة ذلك المدير وتواضعه، ويده الممدودة الى جميع المنتسبين كرماً وعوناً، ولكن المشكلة الوحيدة كانت معي، فهو لأغراض الدعابة لا يناديني باسمي أو كنيتي، وإنما يدعوني الشايب، ولأغراض الدعابة بالمقابل، قلت له ذات مرة (يمعود الله يخليك.. آني تره أشتغل بالإذاعة.. وكلها صبايا ونسوان.. وانتَ 24 ساعة.. وين رايح الشايب.. صيحوا لي الشايب) وضحك الرجل حتى دمعت عيناه..
ما حصل بعد أقل من عام على التحاقي، أن صدام حسين قام بزيارة للإذاعة، واجتمع مع المدير. في أثناء ذلك، كنت مع منتسبي قسمنا من مذيعين ومذيعات ومنفذين ومخرجين ومحررين.. الخ، وعددنا أكثر من 14 منتسباً، نتبادل المعلومات فيما بيننا حول عدد البرامج ومددها وأوقات بثها وأسماء معديها.. فقد يسألنا ذلك الزائر الكبير عن أية معلومة بشأنها، وحين انتهى الاجتماع بينهما التقى صدام بمنتسبي قسمنا.. ألقى الرجل نظرة سريعة ولكنها متفحصة الينا، ثم أشار بسبابته نحوي قائلاً (نسولف ويا هذا الشايب الخيّر) وما كاد ينطق مفردة (الشايب)، حتى ندّت عن المدير ضحكةٌ كتمها بكف يده، ولكن (صدام) انتبه إليها، فالتفت اليه وهو شبه غاضب، وسارع المدير وأوضح له الاشكالية، محاولاً إضفاء نوع من الدعابة او خفة الظل على كلامه (سيادة النائب.. زميلنا حسن العاني من أخاطبه بلقب شايب يزعل.. الآن جنابك قررت.. وقرارك بالنسبة للجميع يعتبر تعليمات واجبة الالتزام والتنفيذ) إلا ان (المزحة) على ما يبدو لم ترق للنائب، لأنه لم يتحرر من وجهه العابس!!
ظلت هذه الحادثة عالقة في ذاكرتي الى النصف الثاني من العقد التسعيني، أي اكثر من عشرين سنة، حين استدعاني الصديق الراحل أمير الحلو، رئيس تحرير مجلة (ألف باء) وطلب مني برجاء مهذب، على عادته، ان أكتب شيئاً عن ميلاد صدام (لأنك لا تكتب عنه أي شيء، والملاحظات حولك لا تبشر بخير، وأنا أخاف عليك)، فرويت له حكاية اللقاء الوحيد مع الرئيس، وحظيت بموافقته، وهكذا كتبتها في المجلة كواقعة تاريخية كما هي، وتحت عنوان (صدام حسين يقرر: حسن العاني شايب)، وما أن ظهرت المقالة –الحكاية، حتى زارني شخص (محسوب) على الصحافة، وانتحى بي جانباً، واستطاع أن يرعبني، وهو يمطرني بوابل من الأسئلة بعد إخباري أنه من رجال الأمن.. يحضرني من تلك الاسئلة (لماذا لم تكتب بعد اسم صدام –حفظه الله ورعاه؟!) (ألم تلاحظ أن اسم السيد الرئيس واسمك قد كُتبا بالخط نفسه، وبالحجم نفسه) (كيف تحدثت في مقالتك عن مدير الاذاعة، قبل الحديث عن الرئيس القائد؟!).. الخ، ولم أفلت من تلك اللغاوي الا بطلعان الروح..، بعد بضعة أيام حضرت احتفالية في فندق الرشيد أقامتها سفارة الإمارات العربية المتحدة، وهناك التقيت وزير الاعلام الذي شكرني وقال لي (أريدك تكتب أكثر عن صدام حتى يكرمك وآني أكرمك.. أنت كاتب كبير وحرام كل شيء متحصل).. والغريب أنه برغم تلك المقالة لم يكرمني الوزير ولا صدام، ولو فعلاً لكتبت كل يوم مقالة مطولة عنه وأصبحت من البرجوازية الوطنية!!
الحق.. فإن الأمر الوحيد الذي أثار دهشتي (رجل الأمن الصحفي) فقد سوّق نفسه بعد 2003 على أنه معارض لصدام والنظام السابق، ونجحت عملية التسويق بامتياز!!