جواد غلوم/
عدت من زيارتي الأخيرة لصديقي الطبيب الذي ألزمني حازماً مرةً وراجياً أخرى، على فراق ووداع الملح وإبعاده عن مائدة الطعام نهائياً بعد أن شرح لي وافياً مضارّه ومخاطره الجمّة وأنا في الهزيع الأخير من العمر، فأذعنت له راضياً مطيعاً طالما أن قلبي بدأ ينهك وضغط الدم أخذ يتصاعد يوماً بعد يوم.
غير أني كنت هلوعاً ولم أطق أن أتذوّق الماسخ من الطعام خاصة أن كل مايحيط بنا أصبح ماسخاً فكل شيء تقريباً صار مذاقه صعب الاستساغة وليس الطعام وحده، وكما يقول أهلنا وكبارنا ومجرّبونا بأن حياتنا أصبحت «بلا طعم» ولكي أضيف إلى مائدتي شيئاً من مذاق يطفئ شهيتي. فقد استشرت طبيباً آخر من معارفي بهذا الأمر وأوصاني باستعمال ملح طبي قليل الصوديوم يمكنه أن يكون بديلاً مقنعاً ويشبع رغبتي الجامحة لهذا العدو الأبيض اللعين الذي كان صديقي يوماً ما ولا يفارقني أينما حللت وحيثما أزفت…وبعد جهد جهيد حصلت على مبتغاي من إحدى الصيدليات ولم يهمّني سعره النفيس الذي قارب العشرة دولارات لكمية لاتتجاوز الخمسين غراماً.
ضحكت في سرّي وتذكرت قصة قوافل الملح التي كانت تعبر الحدود أيام الدولة العثمانية بيسرٍ وسهولة حين يسائل رجال الجمارك الصارمون أصحابَ هذه القوافل عمّا تحمله دوابُهم فيجيبون بأنه “طز” والتي تعني باللغة التركية الملح وسرعان ما يتم إعفاؤها من الضرائب ويسمحون لهم بعبور الحدود بلا ضريبة أو تعرفة جمركية بسبب بخس ثمنه وضآلة قيمته الماديّة في حين أن بقية البضائع كانت تفرض عليها ضرائب تهيض العظم وتقدّ اللحم.
ولا أخفي أن شهيتي لهذا “الطز” قد تفاقمت أكثر فأكثر منذ أن حذّرني طبيبي من تناوله وتساءلت مع نفسي؛ كيف أخلي طعامي من تلك النكهة التي أضفَت سرّاً دفيناً لتقبّله برغم التحذيرات ووصايا الأطباء بالابتعاد عنه؟!
وأتذكر مشهداً مؤثراً قرأته سابقاً في مسرحية “الملك لير” للكاتب الانجليزي وليم شكسبير حينما أراد الملك أن يختبر مدى حب ابنته الصغرى له فسألها: أتحبينني؟. فقالت لأبيها: أحبك كثيراً جداً كما أحب الملح في غذائي!