عواد ناصر/
أمضيت واحدة من أجمل سهراتي التلفزيونية مع عميد الأدب العربي طه حسين على مدى ما يقارب الساعة في برنامج ثقافي/فني مصري عنوانه «نجمك المفضل» وذلك على Youtube.
هي واحدة من فضائل وسائل الاتصال الحديثة أن تتيح للأجيال التي لم تعايش الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخنا الحديث، حتى لو كان ذلك قبل ثلاثة عقود أو أكثر قليلاً. بدا الشيخ العبقري مسترخياً، مهذباً، وشديد التركيز والاختصار في إجاباته، برغم تلك الأسئلة الثقافية والتاريخية التي طرحها عليه محاوره، وهم ما هم عليه من أستاذية ومعرفة وثقافة، أسماء لامعة في الفكر والتاريخ العربيين أمثال:
عبدالرحمن بدوي ونجيب محفوظ ومحمود أمين العالم وعبدالرحمن الشرقاوي وأمين يوسف غراب وغيرهم.
حتى مقدمة البرنامج، وهي سيدة شابة، كانت في مستوى معرفي ولغوي جيد وهي تدير الحوار.
تحدث العميد رداً على سؤال يتعلق بالعامية والفصحى في الأدب قال: لا بأس أن ترد بعض المفردات العامية في النص الأدبي ولست مع أن نكتب بالعامية. وأشار إلى تجربة شخصية حدثت معه في زيارة له للمغرب إذ خاطبه الملك محمد الخامس باللهجة المغربية فأشكلت على العميد الضيف الكثير من المفردات، فجعلها مثلاً على اختلاف “عاميات” العرب الذي يعيق التفاهم والتواصل والحوار.
كان نجيب محفوظ يصغي باهتمام وهو من أكثر كتاب العربية استعمالاً للعامية في رواياته.
عرضاً، كال المديح لمحمود العالم، الشاب آنذاك، ونوه بجهده الثقافي، ولم يفعل ذلك مع الآخرين!
عن شيوخه الذين تأثر بهم، قال: هما الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” والمبرد في كتابه “الكامل”.
يرد الشيخ العميد على سؤال المذيعة بشأن التهديدات بالقتل والدعوات إلى إحراق كتبه بالقول: بلغت تلك التهديدات أوجها بعيد صدور كتابي “في الشعر الجاهلي”. كل تلك التهديدات والمضايقات ذهبت أدراج الرياح لأنني راضٍ عما حققته وما ذهبت إليه، سواء في محاضراتي بالجامعة أم عبر دوري كوزير للتعليم، وسائر نشاطي الفكري والتعليمي في الحياة الثقافية والاجتماعية للناس. حتى الملك فاروق اتهمني بالشيوعية إثر دعوتي إلى مجانية التعليم. وعن أحب كتبه إلى قلبه قال: هو “على هامش السيرة” لأنني كتبته بمحبة كبيرة للنبي محمد (ص).
وأنا أتابع بشغف لقاء العملاق وحواره مع عمالقة (كانوا شباناً) أتداعى لأنحدر نحو سنوات شبابي القارئ النهم، وكيف كنت أيام تعرفت عليهم، أول تعرفي على الكتب والكتّاب، فأزداد شغفاً مشوباً باستغراب وحيرة: لماذا تغيب مثل هذه البرامج الفكرية من الفضائيات العربية اليوم؟
لماذا تحتل “ثقافة” آخر موضة وشد الوجه وشهرة الفنان التي تتجاوز شهرة طه حسين، ومن معه، بعد أول ظهور له في أغنية وإن كانت عادية؟
كان الشيخ العميد، في ذلك الرنامج، واثقاً، موجزاً، عالي التركيز برغم بلوغه الحادية والثمانين، لكنه قاطع مقدمة البرنامج عندما وصفته بـ “الشخصية العظيمة” قائلاً: لست شخصية عظيمة!
أما عندما سئل الشيخ العميد عن “الالتزام” في الأدب، قال: الالتزام، عندي هو التزام العدالة والحريّة واحترام العلم لا “التزام” تعاليم السلطة والسلطان. في وزارة التعليم العالي، عندنا، يقيسون “لياقة” الطالبة الجامعية بطول التنورة، ومنع ارتداء البنطلون، وبارتفاع الكعب العالي، ولكن بلا أي مقياس لعقلها واجتهادها ومؤهلاتها، بينما كان زمن طه حسين، وزيراً للتعليم العالي، زمن بلا تحجيب قسري ولا مقاييس سنتيمترية لارتفاع الكعب العالي. وتذكرت الفرزدق يهجو جريراً:
“أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ/إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ”.