حسن العاني/
أغلب الظن أنه العام (2009)، حين اعتذرت غير مرة، ولكن صديقي رئيس التحرير الشاب، ابن السابعة والعشرين من العمر، والذي يفتقد الكفاءة، ويفتقر الى الخبرة، أناط بي –زيادة على عملي في قسم التحقيقات- مهمة الإشراف على صفحة اسمها المنبر الحر، أو شيء من هذا القبيل، وقال لي برجاء مشفوع بالأمر والمزاح في وقت واحد [هذا تكليف رسمي غير خاضع للرفض أو النقاش] وكأننا في فوج مهمات خاصة على جبهة القتال، وهو النقيب وأنا نائب عريف، ناسياً أو متناسياً، أننا في بلد ديمقراطي، لا طاعة فيه من أحد الى أحد، ولا سلطة إلا لرب العالمين، وقد استجبتُ مكرهاً، ونفذتُ الأمر لقناعتي بأن المنصب في العراق يتقدم على الصداقة، ولا يقيم وزناً للأمر بالمعروف، ولعلمي أن رئيس التحرير يعلم مدى حاجتي الى كل دينار من الراتب، حيث كنت يومها أنوي اللعب بذيلي، والزواج سراً، وبعيداً عن قاعة المحكمة الشرعية وعيون زوجتي!!
تجربتي الطويلة مع جلالة الملكة خادماً مطيعاً في بلاطها، علمتني أنّ الكتابة ضمن الصفحات التي تحمل اسم المنبر الحر أو أي اسم مماثل، تجعل الكاتب يتوهم بأنه من أحفاد نبوخذ نصر، أعني من سلالة الملوك (مصون غير مسؤول، وأن الأبواب جميعاً مشرعة أمام فخامته، فلا أسلاك شائكة ولا عيوناً حمراً ولا ضوابط ولا خطوط محسوبة بالمليمتر الواحد ولا ممنوعات، كما لو كان يتخطى مع حبيبته في نادي العراة. ولهذا كنت شديد الحذر من صفحات الحرية، وأتجنب الاقتراب منها، أو الإشراف عليها لأنني، لاسمح الله، لو سمحتُ بمرور عبارة منفلتة أو خارطة على قوانين الكبار، سواء سهواً وغفلة ونسياناً، أم من باب ادعاء الشجاعة، فإن رئيس التحرير، حتى لو كان شقيقي، سيخضعني قبل مراكز الشرطة والمحاكم الجزائية إلى مئة تحقيق ومئة استجواب ومئة تهمة، من بينها التآمر على الحرية والمساس بشرف الديمقراطقية، وأنا كما يعرف زملائي أدعياء البطولة، وزميلاتي الحلوات على وجه الخصوص، رجلٌ عوّدْتُ نفسي منذ سن مبكرة، على أن أريح وأستريح، وأغلق الباب الذي تأتي منه الريح!!
على أية حال وقع المحذور، وتوليت الإشراف على الصفحة، ورفقتُ مقالة رأيت أنها لا تنسجم مع بدعة (حرية الرأي والتعبير) لأنها لم تعبر الخطوط الحمر فقط، بل ضربتْ بها عرض الحائط. وقد (اشتكاني) كاتب المقالة لدى رئيس التحرير الذي جُنّ جنونه من موقفي، ووصفني بدكتاتور الكلمة وكاد، لولا قليل من الحياء، يتهمني بأنني (من أزلام صدام)، وطلب مني نشرها على مسؤوليته، فقلت له [حاضر استاذ، ولكن من باب الأمانة أفضل أن تعرف مضمونها]. ويبدو أن الرجل، لسبب ما، اقتنع بكلامي، وسألني أن أقرأ له بعض عباراتها أو مقاطعها، فاستجبتُ لطلبه، ووضعت المقالة أمامي وقلت له:
المقالة تتحدث عن الحكومة، وتصفها بالحرف الواحد على النحو التالي [إنّها أقرب ما تكون الى مركز شرطة، لا أحد يحب الوصول إليه أو التعامل معه إلا مضطراً، والوقائع كلها تشير الى أن الحكومة لا تمارس صلاحياتها بوسائل ديمقراطية، وإنما تمارسها بأساليب مراكز الشرطة، ولذلك وجدتْ نفسَها وحيدةً معزولة من غير أصدقاء، وخير دليل على هذا، إنّ علاقاتها مع دول الجوار الإقليمية ومع محيطها العربي متوترة على الدوام، ووصل التوتر الى أميركا، وهي أقرب الأصدقاء والحلفاء إلى الحكومة. أما على الصعيد الداخلي فأزمة المحافظات والدعوة الى الأقاليم ومشكلات السكن والبطالة والكهرباء وكردستان.. لا أول لها ولا آخر، ولعل أسوأ صورة تعبر عن الشبه الكامل بين الحكومة وبين مركز الشرطة تتمثل في..] وقاطعني غاضباً.. [هذه ليست حرية تعبير]، شعرتُ بالارتياح لولا أنه سحب المقالة من يدي وكتب عليها الهامش التالي [مقالة رائعة.. تحت اليد إلى أن يحين موعد نشرها]، واحتفظ بها بين أوراقه. وحين راجع كاتبها واطلع على الهامش، غادر الجريدة وهو في قمة السعادة والرضا، وها قد مضت (8) سنوات ولم تنشر المقالة، ومازال صاحبها ينتظر، ومن يومها تعلمت درساً لا يُنسى في كيفية الضحك على الآخرين تحت عباءة الدبلوماسية!!