محسن إبراهيم /
“أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا سر الوجود”، بهذه الكلمات اختصر جبران خليل جبران مايمثله الغناء من ترجمة للمشاعر الإنسانية على مر العصور. ومازال هناك من يرتقي بغنائه وينتقي كلماته بحرص وبإحساس إلى فضاءات إنسانية تحلّق بها الروح البشرية بين ما يعبِّر عن خلجاتها وما يطربها. والغناء العراقي منذ نشأته الأولى كان مرآة لمجتمع قد عانى ماعانى من ويلات وحروب, لكن ذلك الغناء بقي محافظاً على الرُّقي في الكلمات واللحن والأداء, فانتج ذلك الغناء أسماء مشهورة في خارطة الغناء العراقي, أسماء حافظت على نقاء الكلمة وحلاوة الأداء ورفرفت في سماء الذائقة العراقية، صنعت من أحزانها موسيقى وشعراً لتصاغ لنا أغنيات مثل نسمة باردة في ليلة صيف قائظ, وتتجلى كغيمات مطر أينعت في بستان الأغنية, وحتى مايسمى بالغناء الشعبي فإنه لم يخرج من تلك البوتقة.
ولعل ماصرح به الحاج زاير، حين سؤاله كيف أصبح شاعراً فقال كلمته المشهورة “هزني الهوى بكل حيله ولن شاعر مسويني.” وهذا ينسحب على كل من طرق باب الفن العراقي شعراً ولحناً وأداءً. فالبعد الإنساني هو المحرك الأساس لكل عناصر الفن.
( طارش البصرة)، أغنية اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي قدّمها فتية ذوو موهبة أكدت حضورها من خلال إلاعتماد على التراث الغنائي العراقي. ورغم صغر سن هؤلاء الفتية، إلا أنهم لم ينجرفوا مع تيار الأغنية الهابطة ولم يرددوا ما يخدش ذائقة الغناء العراقي.
لم تتوفر لهؤلاء الفتية سوى غرفة صغيرة تجمعوا فيها ليرددوا أغنياتهم مع جهاز موبايل لتصوير تلك الأغاني، لكن كمية الصدق والدفء في ما يغنون هي ما جعلت أصواتهم تطرق آذان المستمعين دون استئذان. وفي المقابل هناك من توفرت له كل سبل الإنتاج من ستوديو موسيقي وأجهزة تصوير وإخراج على مستوى عالٍ جداً وشعراء كلمات وملحنين ليتحفونا بسمفونية (ابراهيم ارحمني).
مشكلة تلك الأغنية التي أدتها (عصفورة بغداد)، كما تحب أن تطلق على نفسها، ليست بكمية الإسفاف في كلماتها، لكن بطريقة إخراجها، وكمية الانحطاط الفكري في محتوى الأغنية, ذلك التلويث الذي يقفز إليك كلما فتحت جهاز الموبايل لتظهر لك تلك الأغنية على شكل إعلان مموَّل. أيّ ذنب اقترفناه، نحن والأجيال اللاحقة، إذا ما بقيت (عصفورة بغداد) تنادي على إبراهيم من أجل أن يرحمها!؟