عمو إبراهيم والحكومة!

حسن العاني/

قد لا يكون التطرف في عادات الناس ظاهرة، غير أنه بالمقابل واسع الانتشار، ويتجاوز عند بعض الاشخاص حالة التطرف الى حالة الجنون. وتحضرني في هذا المجال شخصية (عمو إبراهيم)، هكذا كنا ندعوه. وحكاية هذا الرجل انه في ستينات القرن الماضي، وتحديداً في احدى سنوات (النظام العارفي) 1963-1968 انتسب الى دائرة الأمن بصفة شرطي، وبعد حصوله على شهادة “المتوسطة”، وعلى وفق التدرج الوظيفي أصبح بدرجة مفوض، وظل كذلك حتى إحالته إلى التقاعد بعد بضع سنوات من احتلال العراق..

أمضى الرجل مدة خدمته “الممتازة” في منطقتنا، وعاصر حكومات النظام العارفي وطاهر يحيى وعبد الرحمن البزاز والبكر وصدام، وطرفاً من حكومات ما بعد الاحتلال.. وأغرب الغرائب في هذه الشخصية، أنها كانت “محبوبة” جداً، وتحظى باحترام الجميع، وهذا أمر صعب التصديق حين يكون بطله رجل أمنٍ يراقب بسمعه وبصره وقلمه كل صغيرة وكبيرة، ويتولى إيصالها بأمانة الى مراجعه العليا. ولكن “عمو ابراهيم” تركيبة من نوع آخر تماماً، فقد أمضى أعوام خدمته الوظيفية، وهو أوضح من عين الشمس، فهو إنسان مستقل بكل دلالات هذه المفردة السياسية، لم ينتمِ الى أي حزبٍ حتى في أيام البعثيين الذين بعّثوا التعليم والجامعات والعساكر والنسوان، بل لم تكن لديه أية أهواء أو ميول يسارية أو يمينية أو دينية، وربما كان الأهم من هذه الاستقلالية، أن الرجل صادق مع نفسه، صريح مع الآخرين.

أذكر مرة، ونحن أبناء محلته ومازلنا في طور المراهقة، أنه أخبرنا بكلام لا لبس فيه ولا غموض، كما أخبر رواد المقهى “مقهى الطرف” كذلك، بكونه يحب الناس ويحب أبناء المحلة، ولا يريد أن يكون سبباً في إيذاء أحد (فأنا-والكلام له- رجل أعمل لدى الحكومة في دائرة الأمن، وأتقاضى راتباً شهرياً مقابل عملي الذي هو كتابة التقارير عن أي شخص مهما كانت صفته، يتحدث بسوء عن الحكومة، أو ينطق بكلمة ضدها، أو يمسّ لها طرفاً، لأنني لا أرتضي لنفسي لقمة الحرام حين أقبض راتباً من دون أداء عملي على أتم وجه وأفضل صورة، ولهذا أرجوكم جميعاً، وحاضركم يبلغ غائبكم، أن لا تذكروا اسم الحكومة أمامي حتى بالخير!!)

هذا هو عمو ابراهيم الذي أحببناه حقاً واحترمناه، والذي ذهب به التطرف في الإخلاص لعمله، الى الحد الذي حذّر والديه وزوجه وأولاده من التعرض الى الحكومة، أو ذكرها على ألسنتهم.. لم يتغير الرجل عن هذا السلوك ولم تتغير تكوينته الشخصية على مدى العقود التي أمضاها في الأمن، والحق فقد احترمنا هذه الخصلة فيه، على الرغم من عدم احترامنا لطبيعة مهنته يومها، والتزمنا الصمت أمامه، ونفذنا نصيحته الكريمة بحذافيرها..

حين أحيل الرجل الى التقاعد بعد عام 2003 بسنوات قلائل، لم يستطع التخلص من جنونه، ومن هوس التقارير، مع أن أحداً لم يطلب منه ذلك، أو يوجه له كلمة شكر على عمله التطوعي المجاني، ولكنه من دون سبب واضح، توقف فجأة عن كتابة التقارير، وتعرض الى حالة من الكآبة، كانت تدفعه الى البكاء أحياناً، وقد خِفنا عليه، وصعبت حاله علينا، وحاولنا مساعدته وإخراجه من حزنه وكآبته، فرحنا نتحارش بالحكومة، ونتحدث عن أخطائها الجسيمة بأعلى أصواتنا، وطالما توسلنا اليه أن يكتب تقارير ضدنا، إلا أنه لم يستمع الى توسلاتنا، وغالباً ما تأخذه نوبة حادة من البكاء، ويقول: أنا أشكركم يا أولادي.. بس المشكلة هي.. وين أكو حكومة؟!