بيان الصفدي /
أسباب أعرفها حيناً، ولا أعرفها أحياناً، عندي نفور من المقابلات والأمسيات وحتى (اللايكات) حالياً، لذا عشت في العراق خمس سنوات بمقابلة صغيرة فقط، اضطررت لها، وحاورني فيها الأستاذ ماجد السامرائي بداية وصولي إلى العراق. وفي مرة ثانية كدت أعلق بحوار تلفزيوني معي بسبب إصرار صديقي فاروق سلوم، فذهبت خجلا وتعرفت بسعد البزاز، الذي كان رئيس القسم الثقافي في التلفزيون العراقي، فاستقبلني بود كبير،
ثم أرسلني إلى المحاور الذي سيجري معي المقابلة، وكان وقتها الشاعر المصري أحمد عز الدين، وإلى جانبه زوجته زينب المنتصر أخت الممثلة سهير المرشدي، فرجوته أن يعفيني من ذلك، وبعد أخذ ورد، قال لي: “كما تشاء”، فنجوت وانسللت هارباً وسعيداً بما يشبه الفرار من المبنى! لفتلقيت بعدها عتباً قاسياً من فاروق، ومن حظي أنني لم ألتقِ بعدها بسعد!
في العموم أظن أن الحوار فرصة لطرح شيء مهم، وليس لتسويق النفس وتبادل المنافع الدعائية مع الآخرين أو استعراض المهارات والأوهام الذاتية، فقد ظل في وكدي أن الدور الأساسي للكاتب هو أن يقرأ ويكتب فقط، لا أن يتحدث عن حياته وعمله، ويحصي عدد المعجبين والمعجبات.
لم أشترك في أية أمسية شعرية، وكنت على الدوام أختلق الأعذار لبعض الأصدقاء الذين يلحون على ضرورة اشتراكي في هذه الأمسية أو تلك.
كنت طالباً في قسم اللغة العربية بالجامعة المستنصرية، التي لها مهرجان شعري سنوي رئيس، ما عدا العديد من الأمسيات والأصبوحات في مناسبات متعددة، ولأنني طالب فيها، ولي حضور في صحافة البلد وخارجه، فقد ظللت عرضة للطلبات المتكررة والعتب، والغضب أحياناً.
إلى أن جاء موسم مهرجان الجامعة الشعري وأنا في السنة الدراسية الثالثة، وكان من المشرفين المباشرين عليه أستاذي في الأدب العباسي الدكتور توفيق عبد الكريم التكريتي، فراح يصر على اشتراكي، ويأمل ألَّا أخذله، فأنا شاعر أنشر في أكثر المجلات المهمة داخل العراق وخارجه، ومن غير المعقول ألَّا أشارك، فتمسكت برفضي، وأخيراً اتفق معي اتفاقاً مغرياً، إذ قال لي:
“اشترك في المهرجان وأحسبلك اشتراكك علامة تامة في الشفهي وحلقة البحث بالأدب العباسي!”
وافقت، ولاسيما أنني كنت قلَّما أداوم في الجامعة، ولا احضِّر إلَّا قبل يوم الامتحان، بسبب اندماجي بعملي في دار ثقافة الأطفال، ونشاطاتي الأدبية الأخرى، لكن أساتذتي يتساهلون معي، فلا يسجلونني غائباً في الغالب، وإذا حصل وسجلوني غائباً تشطب سكرتيرة القسم ما سجلوه! فقد كنت بالنسبة إليها نجماً أدبياً يحق له ما لايحق لغيره!!
لا أنسى عندما وقفت في قاعة الجامعة المستنصرية وقرأت قصيدة (دم في الحروف) التي يقول مطلعها:
“هو الوطن العربي القتيلُ
يجيء من الدمِ
رايته في الرمال تضيءُ
هم الشهداء يجيئون في حلكة الليلِ
يبتردون من النار في ضفة النهرِ
تطلع في هجعة الليل صورتهم قمراً من دمٍ
هل رأيتم دماء تضيءُ
وتأخذ شكلَ بلاد نحدِّدها بالشهادهْ؟!”
وانطلق التصفيق، وسمعت صيحة الشاعر خالد علي مصطفى من الصف الأمامي: “الله!!”
كان حدثاً طريفاً فرح له أساتذتي الذين أذكر منهم: حميد الهيتي، وإسماعيل الكبيسي، وعبد اللطيف اطيمش، وسامي مكي العاني، وهادي النهر، وأحمد نصيف الجنابي، وكمال نشأت، وعبد الله الجبوري، وآخرين.
ولن أنسى المربي الكبير حميد الهيتي (رحمه الله) عميد كلية الآداب آنذاك، فقد كان من ناحية فخوراً بي طالباً عنده أكتب وأنشر وأقرأ الشعر الذي يعجب الجمهور، لكنه من ناحية ثانية لم يكن يحبذ الشعر الحديث، لذا فقد كان يقول لي كلما رآني في ممرات الكلية وبصوته الجهوري:
“ابني بيان! اكتب قريض.. قريض، عوف الشعر الحديث”
فأضحك وأقول له:
“أنت تأمر أستاذ حميد..انشالله!”