جمعة اللامي/
“صَوتُ أبي، صَدى لصوت الله”
( حكمة الشامي )
قبل أن تغادر شمس الله محلة الماجديّة بمدينة العمارة، لتسقط وراء البستان الذي يمتد مع امتداد نهر “الكحلاء”، كان الصبيّ الذي اسمه هاشم، يَلبدُ خلف جذع “نخلة الله”، منتظراً عودة والده، من المطحنة القريبة، حيث كان يعمل طحّاناً على ماكينة قديمة.
وقبل ذلك، كانت أُمه تقول له “هاشم، يُمّه هاشم، أبوك على الدرب”. يغادر الولد ابن السنة السابعة دارهم، ويخترق درابين المحلة الضيقة، حتى يصل إلى النخلة الوحيدة، بينما يكون عطر الوالد “شايع الشرقي” يتقدم نحوه وهو لمّا يجاوز، بعد، نهر “الكحلاء”. عطر “أبو هاشم” طحينٌ في طحين يصل زكيّاً إلى عينيّ هاشم، فيفتح ذراعيه حتى يوازيا قوس الأفق الغربي، ثم يطلق صوته نحو ما بعد بستان النخيل الأزرق : “بُوَيه .. بُوَيه شايع”.
ومن هناك، عند نقطة الزمان التي لا يعرفها، ولا يحسُّ بها سوى”شايع الشرقي”، يدرك الرجل الأربعيني المتعب، أن ابنه ينتظره بجوار “نخلة الله” بعد أن قالت له “ام هاشم” ذات يوم : “هاشم . يُمّه هاشم . أُبُوُكْ على الدرب” فيقوم هاشم يسابق الريح نحو مصدر العطر.
مرت عقود على تلك الذكريات، بعد ان ذهب “شايع الشرقي” إلى دار الحق. لكنَّ هاشماً لم ينسَ عطر والده.
ورغم أن أُمه “رسلية بنت كاظم” لحقت بالزوج الوفي، فإن هاشماً، الذي صار عمره الآن أقلَّ من أربعين سنة، لا يزال يتذكر نداء أُمه، وعطر والده الذي يصطحب معه أحلى حلاوة في شارع المعارف، وألذَّ كعكٍ في “السوق الكبير”، وأشهى رغيف خبز حار في محلة “المحمودية”.
وهاهو هاشم، الآن، وحيد وبعيد عن مدينة العمارة، يتذكر تلك الأيام جيداً، ويحكي لنفسه، بعد أن ماتت زوجته، حكايات والده الطحان شايع الشرقي، الذي عرف أن العمل شرف ضخم، لا يضاهيه سوى شرف الوطن.