جمعة اللامي/
“من كان أسير الله، كان حراً”
(ميخائيل نعيمة)
في الطريق الى المسجد النبوي الشريف، بين مارّة كثر، وألسنة كثر، التقط سمعي نحيبها: “ليولد يا نبي الرحمة، أخذوه مني، وغربوه في البيداء”، اتجهت اليها بقلبي وكياني: امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها، تأتزر بعباءتها الجنوبية السوداء، وتشد رأسها بعصابتها الميسانية السوداء، وحولها ثلّة من الحجاج، يحيطون بها كما يحيط السوار بالمعصم.
سلمت على الجميع، وقلت لأحدهم وكان في مثل عمري: ناشدتك الله يا أخي، ما أمر هذه السيدة، وما ألمّ بها، ولم هي في مثل هذا الانكراب، وهي جوار مثوى محمد الخير والعدالة والسلام؟
بعدما ردّ الرجل على تحيتي بتحية أحسن منها، قال: هذه السيدة فقدت ابنها الوحيد في الحرب، وجاءت الى هذه الرحاب تعرض على أبي القاسم انفطار كبدها، وانكسار ظهرها، وقلة ناصرها، وجور الزمان عليها، وانفراط الناس عنها.
اندفعت في موكبها، مردداً مع نفسي: “أنا سيفٌ هاشمي مذابٌ في قطرة ماء، الماء في جبّ، الجبّ في فلاة، الفلاة في بيداء، البيداء في صحراء، الصحراء في قفر، القفر في مدى، المدى في سماء، السماء في عماء، العماء قلبي وجزيرة العرب التي سقطت في الماء”.
توقفت السيدة لحظة، فرأيت السيف الهاشمي في يدها اليمنى، وهي تعيط: يا حسين يا وليدي.. جدك ابو الحسنين.. جدك رسول الله.. وما قمّطك غيري.
وعندها وجدت لساناً ينطلق ذرباً وصامتاً:
أنا وليدك المذبوح من خلف الرقبة،
صرخة التكبير قبل همزة “الألف”،
وأبعد من لا نهايات “الياء”،
وأنت الراية الوعد،
في زمن الابتلاء.
ثم رأيت روحي، وحيدة، تنتبذ ركناً شرقياً، تحت ظل نخلة ميسانية، تساقط رطباً جنيّا، وفي الأفق راية حمراء عملاقة، خطت عليها كلمات بدماء الشهداء:
لا أب له، من يترك ميسان..
وحيدة