حسن العاني/
في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي بدأت –عبر أحد الأصدقاء- أكتب للإذاعة مقالاتٍ ثقافيةً وسياسيةً وخواطر صباحية وهمسات رومانسية مسائية، وبعد أربعة أشهر أو خمسة، توسعت آفاق كتاباتي، ولم تعد مقتصرة على المقالات، حيث تم تكليفي باعداد برنامج لهذا القسم أو ذاك، لأن المسؤولين عن الإذاعة كما عرفتُ لاحقاً، ارتاحوا إلى أسلوبي واقتنعوا بأن امكانية الافادة من قلمي واردة جداً، ومن هنا حدثت خطوة أكبر، وأكثر جدية عندما عرضوا عليّ فكرة “التنسيب” من وزارة التربية –كوني معلماً- إلى وزارة الثقافة والإعلام لمدة سنتين، ولم يكن هذا العرض مغرياً فقط، بل كان يقرب من الحلم الشخصي، لأنه لصيق باهتمامي الأدبي والصحفي…. وهكذا تم تنسيبي بصفة محرر، وأصبحت في قلب العمل الإذاعي، وتعرفت بصورة مباشرة على الكثير من آلياته وتفاصيله، ومع أنني كنت أباهي بنفسي قبل اكتشافي أن أمامي مشواراً طويلاً لكي أتقن أصول الكتابة التي أدخلها لأول مرة، وهي غير أصول الكتابة للجرايد، فالمتلقي في الإذاعة لا يمتلك غير وسيلة الاذن لسماع خبرٍ أو موضوع أو تعليق، وإذا فاتته مفردة، أو صعب عليه إدراك معنى، خسر كل شيء، ومن هنا تعلمت على يد زملائي المخضرمين كيف يجب أن تكون الجملة الإذاعية قصيرة، وكيف يجب الابتعاد عن الجمل الاعتراضية، وكيف يجب اعتماد الأسلوب البسيط السهل والامتناع عن التفلسف في رؤوس الناس بمفردات وجمل وتعابير تدفع المستمع إلى البحث عن إذاعة أخرى.. وكيف وكيف.. ولهذا توقفت عن مباهاتي وربما غروري، وبت تلميذاً وفياً لأساتذتي القدامى!!
كانت الإذاعة بين الحين والحين الآخر، تعلن عن حاجتها إلى مذيعين من الجنسين، ومقدمي برامج من الجنسين كذلك، ورأيت للمرة الأولى في حياتي، ووقفت على قرب، كيف يتم اعداد المذيع مثلاً قبل أن يُسمَح لصوته بالظهور في الراديو، فقد كنا ابتداءً نطلب من المتدرب ملازمة الاستوديو، والتعرف على طبيعة العلاقة بين المخرج والفني والمذيع، والكيفية التي تجري بها عملية التسجيل، مع الاصغاء الجيد إلى طريقة الالقاء، وهذا التمرين الأولي يكون بالطبع بعد قبول (س) و(ص) للعمل مذيعاً، كونه على وفق القرار الصادر عن لجنة الاختبار، يمتلك خامة صوتية تؤهله للعمل الإذاعي بعد التدريب، زيادة على امتلاكه قدراً مقبولاً من الثقافة اللغوية والثقافة العامة.. وبعد الانتهاء من هذه المهمة التدريبية الأولية، تبدأ المرحلة الثانية وهي الأهم من التمرين، فقد كان المشرفون على هذه المرحلة، يعطون المتدرب ورقة مكتوبة بخط اليد، أو مطبوعة على الآلة الكاتبة، أو مقالة مقتطعة من صحيفة، ويطلبون منه دخول الاستوديو وقراءتها، وبعدها يغادر مكانه ويحضر أمام المشرفين الذين قاموا بتسجيل ما قرأه، ثم إعادة التسجيل على مسامعه، وإبداء العديد من الملاحظات والتوجيهات، في فن الالقاء، ومتى يجب التوقف أو الاستمرار، ولماذا التوقف أو الاستمرار، لكي يكون على دراية واعية في المستقبل.. وكيف نعطي الجملة حقها من الاستفهام أو التعجب أو السخرية.. الخ، وأين يقتضي التسكين ولا يقتضي.. والقائمة طويلة، وهي تجري بصورة يومية.. وفوق هذا وذاك كانت هناك دورات تطويرية مستمرة حتى للقدامى.. وإذن كان إعداد المذيع عملاً شاقاً قد يستغرق بضعة أشهر قبل السماح له بقراءة سطرين أو ثلاثة في برنامج مسجّل، أما القراءة المباشرة على الهواء فحسابها يتم بالسنوات، وكان يُطلب من المذيعين كافة، الاستماع إلى العديد من الإذاعات العالمية للتعرف على كيفية نطق أسماء الرؤساء والوزراء.. الخ.
أستذكر اليوم كل ذلك وأنا أتابع (مصائب) الإذاعات والفضائيات العراقية، وهي تفجعنا بمذيعين ومذيعات ومقدمي برامج، يمارسون عمليات إجتثاث غير مسبوقة للعربية، نحواً وصرفاً ولغة، وإجتثاثاً لفنون الالقاء، ولا أدري لماذا تتفرج هيأة النزاهة على هذا الفساد الذي يخدش حياءنا ولغتنا وذوقنا وسمعنا، مع أنه فساد صريح.. تُرى هل النزاهة تلاحق الفساد الخفي والمستور فقط؟!
وإذا كان الأمر كذلك.. فلماذا لا يمارس المسؤولون فسادهم في العلن؟!