عامر بدر حسون /
كتاب “الأمير الصغير” كان محيّرا للملايين من البشر منذ صدوره وحتى اليوم.
فهو كما يُفترض كتاب اطفال، كما في نية كاتبه، لكنه اصبح كتاب كبار جدا في المغامرة والفلسفة والاسئلة العميقة وهو ترجم الى كل لغات العالم، بل ان بعض الدول قامت بوضعه في المنهاج المدرسي!
قبل اربعين عاما وفي اول اسبوع لي في المغرب، تعمق احساسي بالغربة وكنت ابحث عما يشبه تفاصيل روحي وحيرتي فلا اجد..
ووقفت يوماً أمام مكتبة فرنسية في الرباط.. وشعرت فجأة ان يداً تلوح لي كي ادخل.. فدخلت.
وهناك رايت اليد التي لوحت لي.. وكانت: يد الأمير الصغير!
لا اعرف الفرنسية لكنني عرفت الكتاب من غلافه.. ففي كل لغات العالم صدر الكتاب بالغلاف الذي رسمه وصممه مؤلفه انطوان سانت اكزوبري.
اشتريت الكتاب وعدت مسرعا الى غرفتي و”قرأته” من خلال ذاكرتي ومن خلال رسوم المؤلف الداخلية وليس من خلال الكلمات!
شعرت حين عثرت عليه انني بتّ اقل وحشة وغربة.
***
ازعم، وهذا خارج معايير النقد، ان بعض الكتب لها روح!
بعض الكتب لها روح فاسدة وبعضها روح منعشة وبعضها تسكنك للابد ما ان تمر عليها.
كتاب “الأمير الصغير” بالنسبة لي، كان يملك هذه الروح التي تسكن وتسيطر على قارئها.
ولعل تلك الروح تعود الى انه كتب بروح طفل لم يعجبه تفكير الكبار يوما.
لأوضح هذه الفكرة اشير الى اختصار بليغ قدمه بيكاسو. فهو قال يوما انه في الثامنة من العمر كان يحاول تقليد رافاييل ومايكل انجلو لكنه عندما بلغ الخمسين كان يحاول تقليد الاطفال!
***
غادر اميري الصغير كوكبه الذي لم يكن فيه سوى ثلاثة براكين صغيرة ينظفها كل يوم ويجلس ليشاهد الغروب اكثر من مرة (فكوكبه صغير جدا) فيزداد حزنا وحيرة خصوصا بشان زهرته الغريبة..(وبلغ من حزنه انه شاهد الغروب اكثر من اربعين مرة في يوم واحد!) فقد كان في الحب، والحب مثير عظيم للقلق والحزن ايضا!
وياخذ بالتجوال في الكواكب حتى يصل الى الارض بعد ان راى في كل كوكب مخلوقا يدفعه الى الرحيل بسبب تفاهته او بسبب واقعيته الفجة احيانا.. كل المخلوقات التي مر بها اميرنا الصغير كانت مشغولة بما ينشغل به رجال اليوم:
الحصول على مال اكثر، الحصول على سلطة اكبر، الحصول على نجاح او اي شيء اكثر.. وهم في ذلك المسعى ينسون ويخنقون الطفل في داخلهم.. يخنقون اميرهم الصغير.
لا يكاد احد ينجو من هذا الفخ مع الاسف الشديد!
***
لكن محور القضية هنا ان زهرة ما تنتظره ولا يستطيع نسيانها.
زهرة تجيد الدلال والاغراء والتشكي.. وهي فريدة من نوعها لانها زهرته.
لقد استطاعت تلك الزهرة ان تدجّنه.. وعندما تعلق برف طيور مرت بكوكبه وهرب معها كان يريد ان ينعتق منها ومن الحب ومن اشياء لا نعرفها. وعندما يصل الى الارض يلتقي ثعلبا في حقل مليء بسنابل القمح، فيقول له الثعلب الغارق في وحدته:
“-دجّني” ارجوك!
ويعلمه كيف يكون التدجين.. وهو شيء اشبه برمي الشباك والقلب والمصير امام امراة، فيقول له الأمير ولكن الفراق المؤلم سيأتي فماذا استفدت؟ فيرد الثعلب:
استفدت ان السنابل الذهبية لم تعد مجرد سنابل بل اصبحت بلون شعرك!
***
بمثل هذا المنطق الطفولي والعميق استمتع مئات الملايين من القراء في العالم.. ولعل جملة في هذا التجوال تغريك بقراءة الأمير الصغير فتكتشف انك خنقت الأمير في داخلك او انك أمير فعلا!