حسن العاني/
التأريخ يعود إلى أوائل العقد السبعيني من القرن الماضي، وخطواتي المتعثرة عند بداية المشوار على طريق المتاعب، واعترف من غير إكراه، إن رئيس التحرير الذي عملت (تحت إمرته) لأول مرةٍ في حياتي، كان رجلاً من طينةٍ كريمة، وخلق رفيع، وإمتلاء بروح الأبوّةِ، ولكنه مصاب بنوع من الهوس المرضي في استعمال قلمه الأحمر، والتصرف في مقالات المحررين وتحقيقاتهم وأخبارهم وكتاباتهم من دون استثناء، بحيث لا ينجو من تشطيباته وتعديلاته كبير ولا صغير ولا شاعر ولا مثقف ولا كفوء.. ولا.. ولا.. ومن شدة هوسه أن (كبار) زملائه في العمل لم ينجوا من قلمه، وفي مقدمتهم نائبه ومدير التحرير وسكرتير التحرير ورؤساء الأقسام!
من طريف ما حدثني به الزملاء القدامى في المطبوع، أن الرجل كان ينجز مقالته أو افتتاحيته صباحاً، حتى إذا عاد إليها عصراً، حذف نصفها، وأجرى تعديلات جوهرية على نصفها الآخر، وكان من الطبيعي، أن المحررين الذين هم خارج نطاق المسؤولية، أو من دون مركز وظيفي، كانوا أكثر من غيرهم عرضة لقلم السيد الرئيس (كما كانوا يطلقون عليه من باب المزاح) فاذا كتب أحدنا العبارة التالية (وصل نفوس العراق الى 25 مليون نسمة) قام بتغييرها إلى (نفوس العراق وصل الى.. الخ)، واذا كتب أحدنا (نفوس العراق وصل الى 20 مليون نسمة) قام بتغييرها الى (وصل نفوس العراق.. الخ)، وهكذا عليه (تبديل) الجملة الفعلية إلى جملة اسمية، وبالعكس، في الحد الأدنى من تدخلاته التي تبدأ من العنوان وتصل إلى الخاتمة!!
مع إنني يومها حديث عهد بالصحافة، واستغناء رئيس التحرير عني أسهل من استغنائه عن قميص عتيق، إلا إنني ضقت ذرعاً بالرجل وقررت ترك المطبوع، لولا إن زملائي القدامى الذين اعتادوا على اسلوب الرجل وطريقته، خففوا كثيراً من إنزعاجي، وأوضحوا لي إنّه بخلاف هذه الخصلة، إنسان طيب، ويجاهد من أجل إسعاد العاملين معه، كما إنه لا يقصد الاساءة أبداً، وليس من النوع الذي يستهين بكتابات زملائه، بدليل أنه يمارس عمليات التشطيب والتعديل والإضافة حتى على مقالاته!!
كلام جميل ومقنع، غير إنني بحكم حداثة سني وتجربتي، فكرت أن أحرج الرجل انتقاماً، فعمدت إلى كتابة مقالة وعرضتها على أستاذي في الجامعة، الدكتور “هادي نهر” كي يقوّم أي خطأ فيها، وهو أستاذ مشهود له، ثم عرضتها على اثنين من أعلام الصحافة فأشادا بها بعد تغييرات طفيفة هنا وهناك.. ثم قدمتها إلى رئيس التحرير.. وبعد ثلاث ساعات خرجت المقالة.. يا للعجب.. لأول مرة لم يغير حرفاً أو يبدل كلمة أو يحذف أو يعدل، لأنه اكتفى على ما يبدو برفع اسمي عن المقالة!!