كربلاءُ الشاعر

احمد عبد الحسين/

سألني الشاعر عباس بيضون يوماً: ما السبب الذي يجعل من رموز كربلاء وعاشوراء والطفّ وشخوص الواقعة الحسينية حكراً على قصيدتَيْ العمود والتفعيلة دون قصيدة النثر؟ قال: تجد في قصيدة النثر رموزاً وأساطير وشخوصاً تأريخية، تمتدّ من كلكامش ولا تنتهي بالمسيح، لكنّ واقعة كربلاء وما يحفّ بها بقيتْ تدور في أبهاء الشعر الموزون.

جاء سؤاله بعد أمسيةٍ لي في باريس قرأتُ فيها نصاً عنوانه “كربلاء الوقت”. وتراءى لي وقتها أن السبب يكمن في أن الحمولة العقائدية التي في رموز كربلاء أثقل من أن تجعلها حاضرةً كحجرٍ في معمار شعريّ يُراد له أن يكون شاهداً على داخله لا على خارجه، إذ الشعرُ في أعمق تجلياته ـ التي يفترض أن تمثلها قصيدة النثرـ يضع حاجزاً بينه وكلّ ما يمكن أن يثقله بحمولةٍ إيديولوجية. وكربلاء برموزها أصبحتْ ـ بعونٍ من الطقوسية والصرف الطائفيّ ـ غير قادرة على الحضور إلا في طقسٍ، رثائيّ غالباً، وفيه تمجيد للبطولة أحياناً. والرثاءُ والفخر موردان لا تستطيع قصيدة النثر التقرّب منهما إلا برهان خاسر سلفاً.

تذكرت كتاباً للفيلسوف واللاهوتيّ الإيطالي (فاتيمو) يسأل فيه عمّا إذا كان ممكناً تجريد النصّ المقدّس “الإنجيليّ” من حمولته الدينية، من كلّ ما يجعله دائراً في مدار التداول العقائديّ ورقماً في مضاربات حربٍ طائفيّةٍ معلنةٍ حيناً ومستترة أغلب الأحيان.
«فاتيمو» واثق من قدرة النصّ الديني على أن يكون نصاً بإطلاق، دون زوائد تأريخية وإيديولوجية ألصقت به لاحقاً. ذات الثقة التي أملكها أنا عن قدرة الواقعة الحسينيّة على أن تكون حاضرة في نصّ عميق لا ينشغل بأغراض العمود الشعريّ التقليدية.

نعم .. يمكن أن تكون للشاعر كربلاؤه الخاصة به. كربلاؤه التي هي واقعة ألمه المحض الذي لا يشفيه لطم ولا ندب ولارثاء أو ضرب صدور، كربلاؤه هي هذا الحجيم الذي يستعر دون انطفاء في وجدانه. وكما أن للسيّاب مسيحاً خاصاً به، مسيحاً يمكن أن يكون هو السيّاب ذاته، فإنّ للحسين حيوات يمكن أن تكون بقدر عدد الشعراء الذين يربّون في أعماقهم ألماً خلاقاً.
في تلك الأمسية التي سألني فيها بيضون سؤاله اللافت، كنت قرأت:

(لي كربلاء

وكربلائي لا تنتهي بسهمٍ مثلّثٍ ونارٍ تأكلُ الخيام؛

كربلائي الوقتُ، ماضيةٌ في حضورها وتتشبّهُ بالمستحيلِ،

إنها كمثلِ ياقوتةِ اليأسِ تجدّدُ نفسها في كلّ آنْ.

في كلّ آنٍ فواتُ أوانْ).