أحمد عبد الحسين/
لماذا المثقفُ غاضب، ولمَ لا يجدُ ما يمتدحه على كوكبه؟ كثير التبرّم بمن حوله، كثير الشكوى، ميّالٌ إلى رؤية تلك البقعة السوداء الصغيرة في رداء الملاك الأبيض.
شيء ما يمنع المثقف من التصالح مع ما تواطأ عليه الناس في زمنه. لعلّه نشدان “الحقيقة” والتصرّف بمقتضاها والذبّ عنها، وهي وظيفةٌ لا يجد المثقف أقدرَ منه على أدائها، في ظلّ تحوّل “الحقيقة” إلى إعدادات ثانوية للوصول إلى ما يناقضها قولاً وفعلاً لدى السياسيّ أو رجل الدين. في هذا المشهد المتطامن مع نفسه، وحده المثقف الغاضب يظلّ عصياً على الاندماج، في غمرة انشغال الجميع بالمعيش الذي يُفرغ الحياة من الجوهريّ فيها، الأمر الذي عبّر عنه محمود درويش بقوله “نحن نقتل الحياةَ بالعيش”.
العالم ليس على ما يرام. هذه قناعة المثقف الغضوب، حتى لو أن الإعلام وخطب الساسة وتقاليد وأعراف المجتمع أوحتْ له بعكس ذلك. ثمة خلل في مكان ما في هذا العالم وإلا لمَ تحدث الحروب؟ لمَ يستقوي صاحب المال والسلطة على من لا يملكهما؟ لمَ هناك فساد وظلم وانعدام ضمير؟
في الزلازل المجتمعية الكبرى، يقف المثقف مؤنباً ضميره ومجتمعه كأنه وحده يتحمّل جريرة ما حدث، لنتذكر كيف أن الحرب العالمية الأولى بملايين قتلاها والوحشية التي رافقتها وضعتْ الفرد الأوروبيّ أمام دهشته من طغيان “الهمجيّ” فيه، لكنّ ذلك كان يمكن أن يمرّ كأنه لم يحدث لولا المثقف الغاضب الذي عبّر بعمق عن هذا الجنون، ووحده أشار بإصبعه إلى “الحيوانيّ” الذي احتلّ الإنسان واستوطنه. ما “الدادائية” و”السوريالية” إلا انتفاضة جسد تعرّض لصعق كهربائيّ مميت ظهرت على هيأة نصوص ومسرحيات وأفلام وأعمال تشكيلية منفلتة من كلّ ضابط عقلانيّ أو أخلاقيّ.
لا أثق بالجملة التقليدية الناصّة على أن المثقف “ضمير مجتمعه”، إنه بالأحرى تأنيب ضميرٍ، ومن يقرأ رسائل آينشتاين وفرويد غداة الحرب الكونيّة يعرف السرّ الذي يجعلهما يشعران كأنهما يتحملان هذه الجرائم المروّعة. تحدث المأساة لأن أحداً ما صمت عن قول الحقيقة. والمثقفُ لا يريد أن يكون ذلك الصامت.
أطلق فوكو على هذا النوع من المثقفين مصطلحاً قد يكون غريباً وصادماً لكنه دقيق للغاية، أسماه “كلب الحقيقة”، لأنه الحارس للحقيقة، ولأنه ـ بتعبير فوكو ـ “لا يتكلم بالحقيقة بل ينبح بها”!
هذا المثقف لا يمكن استيعابه أو حبّه، لكنّ حاجة المجتمع إليه حاسمة مهما كثر شتمه ونبذه، ففي النهاية ثمة لطخة سوداء في ثياب الملاك، والعالم ليس على ما يرام.