رئيس التحرير/
خلال سنوات مضت، درت حولها دورة كاملة. أرنو إليها من بعيد بحسرة ولهفة لكني أتردد في التقرب إليها. كنت أحسد من يسكن قريبا منها، من يزورها أو يتردد عليها أو يمر بها. كانت محسودة ليس مني وحدي، إنما من الجميع فقد كانوا يقارنونها مع الأخريات فتبدو الأجمل والأكثر فتنة وألفة، لمن يعرفها. شاع أسمها في كل مدن بغداد مقرونا بالإناقة والهدوء والرزانة.
في يوم من الأيام، ولم أعد احتمل تلك المسافة التي تفصل بيني وبينها فاتخذت قراري. تركت الحارثية وساحة النسور وفلسطين وزيونة وانتقلت إليها.
كانت الكرادة أشبه بأم حنون فهي ليست آمنة تماما لكنها تشعرك بالأمان والدفء. لم تكن متزمتة كالمدن الأخرى. كنت أصادف في شوارعها وحاراتها نساء بعباءات سود وأخريات بتنورات ملونة، رجالا بملابسهم الشعبية التقليدية وشبابا بآخر صرعات الموضة وقصات الشعر الغريبة. بيوتا متراصة بنوافذ مفتوحة على بعضها. جيرانا يتبادلون صحونا مما يطبخون من وجبات الطعام. يتركون مفاتيح منازلهم، حين يسافرون، عند أقرب جار ويوصونه بسقاية الحديقة وإطعام عصافير الكناري.
عندما كان يحظر التجوال في بغداد، أيام الصراع الطائفي، كنا نستثمر ذلك فنشارك أطفال الكرادة وصبيانها، لعبة كرة القدم وسط شوارعها الفارغة.
كنت أسكن قرب جامع (سني) ولا تبعد «كنيسة سيدة النجاة» غير بضعة أمتار عن منزلي. وفي الشارع العام كانت تصطف مساجد وحسينيات الشيعة. في أيام عاشوراء تختلط الأجناس والطوائف والقوميات في شوارع الكرادة، وفي الأعياد تمتزج اللوان والأضواء والبالونات. وفي مقهى رضا علوان تجد زحمة وفوضى الفنانين والشعراء والأدباء وهم يفترشون رصيف المقهى ويقطعون الطريق على المارة. روائح السمك المسكوف تعط أيام الجمع والعطل، ومشاوي الكباب والدجاج لا تترك لك متسعا للتنفس.
تعرضت الكرادة، خلال سنواتنا الصعبة السالفة، للعديد من الاعتداءات الارهابية فامتزجت دماء الشيعة والسنة والمسيحيين، العرب والكرد والتركمان، لكن الكرادة كانت، بعد ساعات من كل تفجير أرهابي، تنهض من بين الركام وتسعيد نشاطها وحيويتها.
تلك هي الكرادة سيدة مدن بغداد، وستبقى كذلك ايقونة للتعايش والسلام والمحبة والشجاعة. تحية للكرادة وهي تنفض عن جسدها، هذه الأيام، آثار الاعتداء الهمجي المجرم.