رئيس التحرير/
علي بوتو
كنا نستثمر أوقات الظهيرة، حيث حرارة تموز تلسع الوجوه، لنخرج من أوكارنا التي نختبئ فيها، بهدف إنجاز واجب أو لقاء صديق، فنلتقي أحياناً برفاق وأصدقاء، من غير موعد مسبق، نسأل عن أحوال بعضنا البعض وبالخصوص عن ظروف الاختفاء وما إذا كانت بعيدة عن أعين رجال الأمن. كنت أختبئ في منزل عائلة أصدقاء تتكون من زوج وزوجة لا أزال أحتفظ لهما بالجميل على تلك الشجاعة التي تمتّعا بها لإخفائي في منزلهما أشهراً عدة، إذ كانت عقوبة من تعثر الأجهزة الأمنية على متخفٍّ في بيته، أشد من عقوبة المطلوب نفسه.
كان المنزل يقع في بغداد الجديدة (منطقة الألف دار حالياً) وكنت فيه معززاً مكرماً أقضي فيه الوقت بالقراءة وسماع أغنيات عبد الحليم حافظ، وكانت الزوجة الصديقة تعمل في معهد للخياطة فأقنعتها بأنْ تجد لي عملاً معها أنجزه في المنزل. هي اندهشت أول الأمر لهذا الطلب لكنها اقتنعت أخيراً بعد إلحاحي. في اليوم التالي جاءت وهي تحمل أكياساً مليئة بالنمنم والخرز وثياباً للصغار والنساء، عليَّ أن أقوم بتطريزها يدوياً مقابل ربع دينار للثوب الواحد.
كنت أخرج بين الحين والحين للقاء أخي “عبود” أو أحد الأصدقاء، وغالباً مايكون الموعد في حدائق أبي نواس، أو في منطقة البتاويين ومقاهيها، بعيداً عن أعين رجال الأمن.
في واحدة من المرات، وكان ذلك في صيف العام 1978 التقيت الصديق الفنان “محمود حمد” وكان هو الآخر متخفياً عن الأنظار، بعد أن تركنا “طريق الشعب” معاً وهمنا على وجوهنا.
في مرة أخرى التقيت علي جبار، الذي كنا نسميه “علي بوتو” لسمرة بشرته وللشبه بينه وبين رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك. كنت رشحت علي للحزب الشيوعي مطلع السبعينات، وكان شاباً حيوياً ومحبوباً ومثقفاً، فكسب رضى وإعجاب الجميع، وأصبح، بعد فترة ليست طويلة، قيادياً في العمل الطلابيّ. احتضنني علي وهو يكاد يبكي، ففي تلك الأيام كنا نعيش محنة وجودية لاسابق لها. انهارت “الجبهة الوطنية” مع البعث وشنّ الأخير هجمة بوليسية شرسة على قواعد وأعضاء الحزب، ولم يتبق لنا ،نحن الفارّين من أجهزة السلطة والمطلوبين لها، سوى البحث عن الأمان وفرصة للهرب خارج العراق. سألني علي، وكان يعتقد أنني لا أزال على صلة بالحزب، عمّا إذا كنت أستطيع ربطه مع قيادة الحزب لأن لديه خلايا ولجاناً ومبالغ تبرعات لا يعرف أين يذهب بها. اعتذرت له وودعته، ولم أكن أعرف أن هذا الوداع سيكون الأخير.. فقد علمت بعد سنوات قليلة، وكنت غادرت العراق إلى المنفى، أن علي بوتو، ذلك الشاب الممتلئ حيويةً ونشاطاً وثقافةً، قد أعدمه النظام الدكتاتوري، بعد اعتقاله بفترة قصيرة.