نرمين المفتي /
سُئلتُ كثيراً لماذا لا أغادر العراق؟ ولاسيما أن بمقدوري أن أجد عملاً براتب مجزٍ أينما ذهبت؟ وكان جوابي دائماً أن العراق حلمٌ يمتد من الجبل شمالاً الى البحر جنوباً، ومن الصحراء في الغرب الى بساتين النخيل في الشرق، حلمٌ يعرف الشباب كيف يحافظون عليه، كان الشباب حتى وأنا في الثلاثين من عمري رهاني للمحافظة على العراق وضمّه في القلوب والعيون، ولم يخيب الشباب ظني أبداً.. أكرر نشر مقال ( لست متشائمة) الذي سبق وأن نشرته في الحيِّز نفسه في 7 تشرين الثاني 2016 والمعارك محتدمة ضد داعش، وكان غالبية المقاتلين الأبطال من الشباب، لأنني أشير فيه الى الشباب وما يستطيعون فعله لأجل العراق:
في سنوات الحصار العجاف، منع القرار 661 دخول مواد لا تحصى إلى البلد لم تبدأ بالكتاب ولم تنته عند قلم الرصاص الذي كان مع أدوية مرضى القلب والفيتامينات والإلكترونيات تندرج تحت بند المواد ذات الاستخدام المزدوج التي يُقترح إخضاعها لمراقبة لجنة مجلس الأمن المسؤولة عن مراقبة تطبيق العقوبات المفروضة على العراق.
ولأن البلد كان بحاجة ماسّة إلى بعض تلك المواد لكونها داعمة للحياة، نشط المهرّبون الذين يكونون دائماً بانتظار الفرصة. وتحوّل المثل الأميركي الذي يقول (المال يتكلم) إلى واقع في مجتمع كان يتعامل مع المال على أنه (وسخ دنيا)، وأصبح المهربون أصحاب ملايين بالدينار الـ (سويسري) وليس المطبوع، الذي أصبح في سنة ما، مليون دينار منه يساوي 400 دولار بعد أن كان الدينار السويسري يساوي 3 دولارات.
ولأن المال يتكلم ويطلب، بدأ الفنّ بفروعه كافة، حتى التشكيل، يتحول إلى ما يعجب أثرياء الحصار، ليتحوّل المسرح العراقي العريق إلى تهريج، والغناء الجميل إلى صراخ وكلمات غريبة. انحدر الفنّ إلى مستوى بقدر ثقافة المهربين الذين أصبحوا (النخبة)!، حينها كتبت أن ميزان القيَم العراقيّ انقلب وأصبحنا بحاجة إلى معجزة لتعديل الميزان. وجاء أثرياء الحرب والظروف بعد 2003، ويا للعجب، لا يختلفون عن أثرياء الحصار. نهّازو فرص ومتسلقون يحملون حقائب بأقنعتهم التي يغيّرون بها وجوههم، أحياناً لمرتين أو ثلاث في اليوم الواحد، واختفى حتى ذلك الميزان المقلوب.
ومع استمرار الظواهر الشاذة في الشارع، العنف، الطائفية، وأخطرها: اللهاث خلف (وسخ الدنيا) الذي جعل العراق في صدارة الدول التي تعاني الفساد وتنفيذ كتل سياسية لأجندات خارجية.
إزاء هذه الظواهر لا أجد تفسيراً إلا أننا توهمنا أننا كانت لنا قيَم، فليس من المعقول أن نصل إلى هذه الدرجة من القبح لو كانت لدينا ولو بقايا قيَم.
وبرغم كل هذا، لست متشائمة حتى لو كانت أموال الفساد وأثرياء الحرب ومن تبقّى بيننا من أثرياء الحصار، تصرخ بدلاً عن التكلم لتثبت أصحابها، ولن تقدر.
لست متشائمة لأن الشباب الذين صقلهم الوجع والعنف بدأوا يؤسسون لميزان قيَم يبدو رائعاً لكثرة تضحياتهم، بانتظار أن يعودوا بنصر حاسم من الموصل، بإذن الله، وأن يضعوا أيديهم بأيدي شباب مثلهم يواجهون الفساد والأنانية، ليؤسسوا لنا غداً طال انتظاره وسيبدأون، أتمنى، ركلَ كلَّ الذين يخبِّئون وجوههم الكريهة خلف أقنعة، وبتكسير الكراسي)).