نرمين المفتي/
تتسرب الرائحة من الشاشة التي أمامي أو بين يدي، وتجعلني اغمض عيني فرحا أو وجعا، رائحة ذكرى تملأ كل حواسي، ما ان تظهر صورة مكان اعرفه، بحر اعشقه أو صحن حضرته. لا تحتاج الرائحة الى اختراع تطبيقات للأجهزة الذكية أو اجهزة الكترونية، فهي في مكان ما من الذاكرة، طرية دائما وعلى استعداد ان تملأ الحواس مع أية اشارة خارجية ان كانت صورة أو كلمة. وهناك من يستغل الرائحة في مشاريع تجارية اثبتت نجاحها، مثل قطار المناجم في ديزني لاند الذي يأخذ الزائر الى منجم تشعرك رائحته وهي مزيج من روائح الرطوبة والتراب والغازات بأنك اصبحت داخل منجم حقيقي. للرائحة سطوة علينا، شئنا أم أبينا، لذلك يحاول عدد من الكيميائيين التوصل الى علاج بالرائحة، كأن يصف الطبيب عبوة رائحة حنين أو شوق لمن اصابه فقدان الذاكرة. من يستطيع ان يلغي رائحة الشورجة في بغداد؟ هي ليست رائحة البهارات وحدها، انما رائحة زمن بدأ منذ الفترة العباسية واستمر برغم الاحتلالات والمذابح والسرقات، رائحة تتشكل من مزيج روائح عديدة تملأ الحيز من صورة واحدة. للشخص رائحته، قد تكون رائحة عطره أو جسده الطبيعي، لكن مولانا جلال الدين الرومي يقول “الكلمة هي رائحة الانسان “، وبهذا المعنى، هناك سياسيون يحاولون من خلال عطور باهظة الثمن ان يخففوا من رائحتهم النتنة التي تفوح من تصريحات طائفية مزقت المجتمع العراقي ودفعت بالملايين الى النزوح وابتكرت وسائل تغيير ديموغرافي وهجرت آلاف العوائل. وللأزمان رائحتها التي تتمكن من حفظ الوقائع، هناك في قصر الاخيضر، الرائحة تروي التاريخ، رائحة مميزة لقصر لايزال يحتفظ برفاهية من عاش به تفوح من ساقية في حمام النساء كانت خاصة بالعطور. وفي الصحراء لليل رائحة ناعمة في مكان تقترب فيه الأرض من السماء، والرائحة تجعلك تمد يدك وتقطف نجمة. شخصيا، رائحتان اشعرهما واشمهما وهما البحر والقهوة، بل ان الرائحة المتميزة منحت للبحر أو للقهوة تاريخا وذكرى. ويوما كتبت عن تلك الرائحة المميزة للبحر والصحراء معا.. كنت في صحراء السماوة، عند المملحة حيث رائحة الملح الذي يمنح للبحر رائحته ايضا. وهناك شخصيات قليلة مثل محمد علي (كلاي) الذي لم يكن رياضيا فذا، انما إنسان استثنائي، يمنحون زمنا ما تاريخا ولونا واسما وبريقا ورائحة. لمحمد علي رائحة مزيج من دمار فيتنام ومقتل صغارها ورفضه المشاركة بها واسلامه وانتصاراته المتكررة ومرضه، رائحة اسطورة لن تتكرر..