جمعة اللامي/
مبارك علينا جميعاً، من القطب إلى القطب، ومن بلدان العالم الأول، إلى بلدان العالم ما بعد الثالث، حلول شهر رمضان المعظم، لأنه متنفس الروح.
“ما أقلّ كثير الدنيا في قليل الآخرة، مع فناء هذه ودوام تلك”
(ابن المقفع)
ونضرع إليه تعالى في أيامه الجليلة، ونفزع نحو وجهه الكريم، لأن الصيام له وحده، عزّ وجلّ، ففي أيامه إطّراح للدنيا، وفي مذاق تجاريبه امتحان الدنيا التي “لو سألتها عن نفسها، ما أحسنت أن تصف نفسها” كما قال المأمون بن هرون الرشيد.
الصوم ارتهان لله. وعندما يصوم إنسان طالباً القرب من الله، يجعل الدنيا خلف ظهره تماماً، بل قل ينساها. ورحم الله سفيان الثوري حين قال: “إذا زهد العبد في الدنيا، أنبت الله الحكمة في قلبه، وأطلق لسانه وبصره في عيوب الدنيا.”
لقد كنتُ مثلك يا أخي- يقول غريب المتروك- مقبلاً على الدنيا، لا تملأ عيني جواهرها، ولا تترس معدتي محرماتها، ولا تروي شهواتي مفاتنها وإغراءاتها. لكنني- أصدقك القول يا أخي- وجدتها أن يكون الرأي لمن يملك، لا لمن يرى، كما قال المهلب بن أبي صفرة، وحينها عرفت متنفسات روحي بالصوم، فرحت أردد قول اللورد بيرون: “ما أحببت الدنيا ولا أحبتني!”
الدنيا حلم، والآخرة يقظة. هكذا قال شيخ العقل الحسن البصري، ذات يوم، بعد قرون وقرون من قولة سقراط الشهيرة: “الدنيا سجن لمن زهد، وعيد لمن أحب!” ولا حبّ حباً إلا حبّ الله، أو حب مخلوقاته من أجل رؤية سُبُحات وجهه الكريم، والحفاظ على الوديعة الربانية، والذود عن الأمانة الإلهية، لدى بني البشر: الأوطان! ولذلك رأيت يا أخي – ينقل غريب المتروك عن أخبار أهلنا الراحلين – أن خيرة أهلنا قاتلوا أو استشهدوا في رمضان، في معركة الإيمان كله ضد الكفر كله، أو في منازلة الإنسان لفوارغ نفسه ونوازلها التي تدفع به نحو تخمة من نار، وارتواء من سعير، وراحة من ظلم.
وطيلة أيام الشهر الكريم، وحتى في أي يوم من أيام الزينة، كما كانت “القلة البدرية”، ندفع بأنفسنا نحو وجه الله، حين نصوم له ونقدس أسماءه، فيصير الخوف أمناً، وتستحيل النار برداً وسلاماً، ونختار دنيانا كما أرادها تعالى: معبراً جميلاً إلى مستقر هو الأجمل والخالد.
وهكذا عرفتُ “صوم الأحرار” من بني قومي!