حسن العاني /
لا يقع في ذاكرة قريتنا العراقية الجميلة، أن الناس أحبت من قبل كما أحبت هذه الإنسانة النبيلة، وريثة الحسب والنسب والشهامة والمال والجاه والكرم. هي كل هذا وأكثر من هذا، فأية غرابة يوم تزوجت ابنة الجميع “ليلى” أن يحتفي الرجال قبل النساء، والنساء قبل الرجال، ويقيموا لها حفلاً دام سبعة أيام بلياليها، وشارك القرويون –حتى شيوخهم وعجائزهم- في موكب زفافها، وهم يدعون لها بالسعادة والرفاء والبنين!
حلوة والله ليلى، ومن يدري كم أثارت من حسد قريباتها وصديقاتها. وها هي ستة أشهر تنصرم على انتقالها الى بيت الزوجية، من دون أن تظهر عليها دالة أو علامة من علامات الحمل، وهذا مدعاة للقلق في قرانا العراقية وأعرافها الموروثة، لأن الوساوس والظنون، وأحياناً الاقاويل، تنتشر بين الناس في السر أو العلن، فربما تكون (البنت) عاقراً، أو يكون زوجها عاقراً، وتلك هي بداية الأزمة بين أسرتي العريسين، فاذا مضت ثمانية أشهر من غير علامة، تأزمت الأجواء الأسرية بين الطرفين، أما إذا انقضى عام بأكمله، فإن تبادل التهم والتلميح بالطلاق يظهر على السطح كعين الشمس، وتتحول أيام الزوجين الى همّ وغمّ ونكد، مهما كانا متوافقين وسعيدين!!
في مرحلة السوء هذه، يأتي دورر العقلاء ورجال الدين وأهل الخير لتهدئة النفوس المضطربة والعقول المنفعلة، ويتوجهون الى الزوجين، على وجه التحديد والخصوص، لمراجعة الشيوخ والدراويش والأطباء والملالي والأعشاب المجربة ومراقد الأولياء والصالحين.. وذلك ما حدث حقاً مع ليلى وزوجها، فقد عزما أمرهما، وبدآ رحلة طويلة شاقة، لم يتركا في أثنائها باباً إلا طرقاه، مستشفيات وعجائز خبيرات وأدعية وحجب ومختبرات وأطباء وأعشاب طبية وفتاحي فال، والزمن يمر عليهما كلمح البصر، فقد انصرم العام الأول وأعقبه الثاني ثم الثالث، من غير بادرة أو علامة أو حتى اشارة عابرةٍ يمكن التعلق بها، ومع ذلك ما انفكا متعلقين بالأمل، وإن كان اليأس قد تسرب الى نفسيهما..
على تلك الحال مرت خمس عشرة سنة، كبرت ليلى وكبر حزنها، كانت حزينة، وكان أهل القرية أشدّ حزناً، فأفضال هذه السيدة النبيلة شملت كل بيت، ثم إذا حلّ العام الرابع و العشرون وهي تنتظر الحمل بفارغ الصبر ومن دون جدوى، شاع فجأة خبرٌ هزَ القرية وأربك الناس، ومفاده أنّ طبيباً أجنبياً لا نظير له، يعالج حالات العقم وينجح دائماً.. ومن هنا اختلف سكان القرية اختلافاً عنيفاً، ما بين موافق ومعترض، لأن العلاج على يد رجل أجنبي –ولو كان طبيباً- مما تأباه اعراف القرى العراقية وتقاليدها، ولكن الرغبة العارمة في أن تتكحل العيون وتفرح القلوب بحمل ليلى، كانت الأقوى فانتصرت!!
وهكذا خضعت لعلاجه، وما هي الا اسابيع حتى عمّت البشرى، فقد نجح العلاج، وإن هي إلا مدة الحمل تنقضي، وان هو إلا شهر من أشهر الربيع، ويوم يعود الى أواخر الثلث الأول من ذلك الشهر، حتى وضعت ليلى مولودها البكر بعد 24 سنة من رحلة العلاج والانتظار والصبر، وكان المولود ذكراً، وليس الذكر كالأنثى.. فعمّت الأفراح ونُحرت الخراف وأقيمت الدبكات والموائد والاحتفالات من زاخو الى الفاو.. كان الجميع سعداء إلا ليلى.. هي الوحيدة ظلت صامتة حزينة، لأن المولود الذي بين يديها جاء مشوّهاً كسيحاً، لا تستطيع اخفاءه ولا إظهاره، كم بكت المسكينة وندبت حظها، وكل ما كانت تتمناه في تلك اللحظات العصيبة، لو انها لم تلد ولم تولد، ولو أنقذها الموت من تلك المحنة..