#خليك_بالبيت
حسن العاني /
تحفل كتب التراث بمئات الحكايا والاحداث والوقائع التي تكشف هوية الامة، وتميط اللثام عن طبيعتها ومزاجها والعقلية التي تحكم سلوكها ونمط تفكيرها بما له وما عليه، ومن طريف ما وقفت عليه في هذا المجال، حكاية تفيد بأن قبيلتي (كعب) و( أياد) اتفقا فيما بينهما ( وكانت العرب تتفق من دون حاجة الى ورقة وقلم وكاتب عدل… بل هي كلمة تقوم مقام العهد والوثيقة) على تقاسم مرعى خصب للماشية، يكون لكل منهما عام، غير ان كعباً اخلت بالعهد ونقضت الاتفاق … وهذا ليس بالامر الهين بعد ان استأثرت كعب بالمرعى وحدها، وحرمت قبيلة اياد من حقها ونصيبها..
لاغرابة اذا ماتلبدت السماء بغيوم سود تنذر بحرب تطرق الابواب على الرغم من الود الكبير والجيرة الطيبة بين القبيلتين لولا حكمة خطيب العرب( قس بن ساعدة الايادي) ورجاحة عقله، فقد جمع افراد قبيلته الذين كانوا يعدون العدة للقتال، ووقف فيهم خطيباً “أقسم بالصبح الموعود والرب المعبود، ان الحق لاينكره عاقل، ولاينشده جاهل، فقد رأيت الرأي المبين، وعلمت علم اليقين، ان كعباً جهلت (اعتدت) في وضح النهار، وغرها حلم الجار، حتى غفلت ان صبح الغادر ليل اهوج، وليل العادل صبحٌ ابلج، وَعَدَتْ فنكصتْ، وعاهدت فرجعت، خرجوا على السنن، وقلبوا ظهر المجن، فان دعوتكم الى عقد الراية، والسُرى الى الغاية، لكان لكم صليل لايرحم، وكثرة لاتُقحم، رماحكم جبارة، وسيوفكم بتارة، عن يمينكم تغلب وشيبان، وعن شمالكم بكر وعدنان، خيام هاوية، ونساء عاوية، شرف يهرق، وبيت يحرق، نجهل كما يجهلون، ونبغي كما يبغون، فرسانكم لاتبقي ولاتذر، وقد اعذر من انذر، وذلك هو الحق المبين، في كلام الاولين والاخرين، اقرته احكام الانس والجن، العين بالعين والسن بالسن، غير ان كعباً بنو عم، ونسب وصهر ودم، بناتنا ازواج لهم وبناتهم ازواج لنا، رماحنا ذادت عنهم ورماحهم ذادت عنا، سألناهم يوم لا يُسأل الا كريم، فحنوا علينا حنو المرضعات على الفطيم، اوقدوا نار الفلاة، وذبحوا الناقة والشاة، من انكر فناكر جميل، ومن شكر فمعدن اصيل، اعلموا ان اصبنا منهم مقتلاً، او اصابوا منا مقتلاً، فالسهام عائدة، واللطيمة واحدة، الا يا سادة القبيلة ورجالها، الفتنة ترمي اليكم حبالها، ماهي منهم الا نزوة الغافل، وماهي منا الا بصيرة العاقل، الا فأنبئوا عني كعبا، لهم الكلأ والمرعى، هذا العام وكل عام، فهم الاهل الكرام، ليس بين السداة واللحمة غالب او مغلوب، ولا بين ذوي القربى طالب او مطلوب، لو كان فيها – حاشاها – الطمع – والجمح، فمنا العفو والصفح، ان التزموا بالعهود، فشيمتهم الوفاء والجود، الله الله في ذرية كعب، واللعنة اللعنة على الحرب “.
وتحدثنا كتب التاريخ، ان صعصعة بن همام بن مازن، زعيم كعب لما بلغته خطبة قس بن ساعدة الايادي، بكى حتى اخضلت لحيته، ودعا قومه ووقف فيهم خطيباً، وقال فيما قال “لقد الزمتنا اياد الحجة، واوقعتنا في دروب اللجة، افيهم ابن ساعدة وصفوة اياد، وقد شهدوا ان كعباً من الاجواد، تاالله نسائي عليّ مثل ظهر امي، واني مشهد على ذاك قومي، المرعى لهم هذا العام، وما يعقبه من اعوام” وحين بلغ اعتذار صعصعة مسامع ابن ساعدة، أولَم وليمة كبيرة التقت عندها عيون القبائل، ووقف فيهم خطيباً، واخبر من كان حاضراً، ان كعباً جادت عليهم بالمرعى، وقبيلته لاترد هدية الكريم، ولكن الارض وكلأها وماءها حلٌ وحلالٌ على ابل كعب وماشيتها، ترتادها متى طاب لها الارتياد!!
وهكذا نجح قس بن ساعدة بشيء من الحكمة والخلق النبيل والتصرف الذكي في درء حرب كان يمكن ان تأتي على الاخضر واليابس، من دون صلاة موحدة، ولا كلام تبثه الفضائيات في الليل وتمحوه الطبقة السياسية في النهار…
النسخة الألكترونية من العدد 363
“أون لآين -6-”