مقاومة النسيان

أحمد سعداوي

هناك حادثة تروى عن رسّام أعلن عن إقامة معرض فنّي، ولكن أحداً لم يحضر إليه، سوى صديقٍ صحفي. صنع هذا الصديق قصّة صحفية عن المعرض. صوّر لوحاته، وأجرى حواراً مع الرسّام ووضع آراءً على ألسنة حضورٍ مزيّفين لم يكونوا موجودين أصلاً، وهكذا، من على صفحات الجريدة في الأيام التالية، صار المعرض موجوداً.
هناك، في الواقع، منطق معقول في الرأي الذي يقول: ما لا يوجد في الإعلام لا يوجد في الواقع.
في كولومبيا عام 1928، قمعت الحكومة الكولومبية عمال شركة (يونايتد فروت)، وهي شركة أميركية عملاقة كانت تحتكر إنتاج وتصدير الموز في أميركا اللاتينية. سقط جرّاء هذا الحادث الكثير من العمّال قتلى، ولكن السلطات منعت التغطية الإعلامية، وتم اعتباره غير موجود. يقوم غابرييل غارسيا ماركيز بعدها بعقود بإعادة التذكير بهذا الحادث المنسي، من خلال تضمينه في روايته الشهيرة “مائة عام من العزلة”. وكان مصدره عن الحادثة هي الروايات الشفهية المتداولة. لم تكن مجزرة الموز موجودة في الإعلام، واعاد ماركيز إحياءها من خلال الفنّ الأدبي.
إن العلاقة شائكة ما بين الواقع والفعاليات والأحداث التي تجري فيه، مع التوثيق الذي تقدمه الصحافة، ومن ثمّ كتب التاريخ الأكثر شمولاً وسعة. ولدى المؤرخين والباحثين الكثير من الشكوك أن الوثائق والآثار الموجودة عن الأزمان الماضية لم توثّق لنا كلّ شيء، وأن القائمين عليها قد أغفلوا عن عمد، أو سهو، أحداثاً كثيرة. إن التاريخ الموجود بين أيدينا ما هو إلا “آثار” عن التاريخ بكثافته الحقيقيّة.
لذلك، خوفاً من النسيان، أو الوقوع تحت رحمة مؤرخين غير منصفين، انشغل الكثير من المؤثرين، من قادة وزعماء وكتّاب وفنانين وعلماء، ببناء صورتهم داخل الإعلام، ومحاولة السيطرة على هذه الصورة.
يذكر ميلان كونديرا في روايته “الخلود” كيف أن فولفنانغ فون غوته، الشاعر الألماني الكبير، كان حريصاً على “صورته الخالدة”، وألا يقوم بعمل يؤثر على خلوده. ومنها مقاومته، في أخريات حياته، لإغراء الوقوع في علاقة غرامية مع بنت شابّة تصادق المشاهير.
على الضدّ من ذلك، لم تكن إيملي ديكنسون، الشاعرة الأميركية الكبيرة، حريصة على الخلود، أو أن تقاوم النسيان، بل كانت تقول لعائلتها وأصدقائها إنها تكتب الشعر لغاياته الروحية الخاصّة، وأنها تفضّل الاحتفاظ بكتابتها لنفسها. ولم نكن لنعرف بوجودها أصلاً لولا أن أختها لافينيا ديكنسون قامت بنشر نتاجها الشعري الضخم بعد وفاتها. ثم صارت مشهورة ومعروفة كما هو غوته، رغماً عن إرادتها.
إن للزمن ألاعيبه الخاصّة على مايبدو. في سيرته الذاتية، يذكر جورج أورويل أنه زار مكتبةً عامّة في بلدة “كاستري” التي ولد فيها الكاتب البريطاني أج جي ويلز. وسأل أمينة المكتبة عنه، فلم تعرفه، وذكرت بأن أحداً لم يستعر من سنوات أي كتاب لهذا الكاتب. أصيب جورج أورويل بالحزن لأن أحداً من بلدة ويلز التي ولد فيها ما عاد يعرفه.
لو تأخر الزمن بجورج أورويل لعرف بأن صناعة السينما في عصرنا الحالي أعادت احياء ويلز، وقصصه الفانتازية والخيالية، ليكون شهيراً جداً، بل طبعت أعماله عصرنا ببصمتها الخاصة، مثل “آلة الزمن” و”جزيرة الدكتور مورو” و”حرب العوالم” وغيرها.