من فَضلة قلوبنا يتكلّم الحجرُ

جمعة اللامي /

أمطَرتْ مِنْ أطرافِ أصابعهِ !
“إن الكاتب الحقيقي شهيد، لن يَموتَ مُطلقاً.”
(أنوريه دي بلزاك)

حينَ خاطبتُ غريب المتروك في ساعة صفاء وانقياد لله تعالى:
ــ “بالله عليك يا غريب، هلاّ تكلمت إليّ في شأن صاحبك: نُعمان الحكيم، وكيف تعرفت عليه، وأين؟
أخذ يحدثني رفيق العمر عن صاحبه ساعة، وساعات، ثم نهاراً، ثم ليلة، ونحن نتوقف عند نهر، أو نعبر ساقية، فكان يتوقف ليقول: أنعم به كريماً، وأكرم به جابراً لعثرات الكرام، فهو يجمع ما بين شرف المحبة وصدق المروءات، ومن اجتمع لديه الكرم والحياء، حَقَّ فيه القول: حكيم. وهذه إحدى صفاته، لكنها لن تفيه حقه، فحقه في سيرورة حياته، وفي كرائم مُحتدّهِ.
ـــ “أنت تتكلم في شأن كاتب وإنسان؟” سالت المتروك.
ـــ “بل هو أبعد شأناً.”
ـــ “كيف؟”
قال: مرّت علينا أيام قَحطٍ ، فاحتبسَ المطرُ، واصفرَّ الزرعُ، ونَضبَ الضرعُ، فهرعنا إلى الاستسقاء، لكن الحال بقي على ما هو عليه، حتى حدث ما حدث يا رفيق العمر!
ـــ “ماذا حدث يا غريب؟”
قال: كنا نواجه مِحرابَ ذلك المسجد الصغير الذي يطلُّ على البحر، وقد اظلمَّ الليل، والتجأ كل خليل إلى خليلته، وكنت أتوسّل إلى المولى العزيز لِيَمُنَّ علينا بالسَيل، ويُرطّب أرضنا بسحائب ممطرات، ويبلّ أرياقنا بِشربة من ماء، حين دخل رجل يمشي على تؤدة، فنزع عباءته، ورمى بِعقالِهِ بين يديه، وتَبَخبَقَ بغترته..
ـــ “هكذا إذاً، يا صاح.”
قال: ورفع الرجلُ ذراعيه عالياً كما لو أنه يُباهل، ثم قال:
ــ “إلهي، وسيدي، ومولاي، إلى كَمْ تردّ عبادك فيما لا ينفعك، أَنَفَدَ ما عِندكَ، أم نَقَصَ ما في خزائنك؟ أقسمتُ عليكَ بحبّكَ لي، ألا ما أسقيتنا غَيثك الساعة؟”
قلت: إنَّ هذا لَدعاءٌ عَجيب؟
قال المتروك: فما انتهى من كلامه، حتى تَغيَّمت السماءُ، وجاءت بمطرٍ كأفواهِ القِرَبِ.
قلت: يا غريب، إنّهُ حرّ حتى في دُعائه.
قال: هو ذا صاحبي، نُعمان. وقد لقبته بـ “الحكيم” لأنه نطق الحكمة عندما فَسَّرَ لي دعاءه، فقال:
ـــ “عندما تكون في حضرة الله، فَتصرَّف كما لو أنك عبد الله فقط، وإذْ ذاك تَنقادُ إليكَ الحُريَّة بِرِسَنِ الكَرم، ولجام الجود، وحرف الحكمة.”
ثم ختم المتروك بقوله: “ومنذ ذلك اليوم، شكرتُ ربي لأنه تعالى أكرمني بما هو أغلى من المال، وأنفس من النفائس طُرّاً: مصاحبة نُعمان الحكيم، على الخير والحق.”