حسن العاني/
لرجلٍ مثلي امتهن اعتكاف المنزل، وارتضى لنفسه حرفة الانطواء وعاشها عن طيب خاطر، لا عزاء أمامه ولا سلوى، الا متابعة الفضائيات ثلاث ساعات في اليوم، وخمس ساعات للنوم، وست عشرة ساعة لاجترار الذكريات وعتاب الزمن الذي جعلني أرتضي الهوان مكرهاً. أما وأني قد سئمتُ من ذكرياتي المجترة حتى ما عدت أقربها، أما وأن (النصال تكسرت على النصال) وما بقي لها متسع في الروح، فعلى أي شيء أعاتب الزمن بعد فوات الأوان، وما الذي تبقى من (سلوة) للشيخوخة غير مقعد وريموت وشاشة تلفزيون؟
لعلني مازلت أجهل فهم الوطنية، فإذا بي لا أغادر الفضائيات العراقية –مع انها لكثرتها باتت من غير لون ولا طعم- أنا مثل الطفل الذي تحصنّه أمّة من الانزلاق فتمنعه من مخالطة أولاد الشوارع، لا أغادر الفضائية العراقية (أ) إلا الى الفضائية العراقية (ب)، وهذه هي الوطنية الساذجة، وطالما أتعبني التنقل مثل مسافر تائه، ولكن العثور على برامج ترفيهية أو ثقافية أو درامية عليها العين، وهوايتها عراقية المنشأ والانتاج أتعبني أكثر، فالصورة واحدة، حيثما وليت وجهك وأدرت ظهرك، محللون سياسيون يتحدثون في كل شيء وعن كل شيء، من السياسة الى الاقتصاد ومن الفن السابع الى مصارعة الثيران، ومن الافتاء الديني الى ماشاء الله، أقسم برأس اللاة إن عددهم فاق المشاهدين كثرة!
ما الذي يجعلني أحب الفنان إياد راضي، وأنا لا أعرف المعايير التي تجعل هذا الفنان في القمة وذاك في السفح.. إياد عفوية تعيد الى ذاكرتي الفنان الكبير سليم البصري، ولا أدري كيف أشرح الأمر، كما أجهل صواب هذا الرأي من خطئه.. إياد مقنع ومرشح لعبور القمة في الكوميديا والتراجيديا ومجالس اللهو ومجالس العزاء على حد سواء.. رائع هذا الحنطاوي الممتع.. أبحث عنه.. إنه ليس هو.. إياد في عمل يصعب أن يكون عملاً، مع الحمار، مع إساءة لاسمه وتاريخه الفني، هل تابع (تحت موس الحلاق) مثلاً، من إنتاج الألفية الثانية، وهي تابع (الراية البيضاء) مثلاً من إنتاج الألفية الثانية كذلك، وهل سأل نفسه وهو في الألفية الثالثة، إن كان مقتنعاً بما قدمه في مسلسل تولى بطولته مناصفة مع حمار، قبل إقناع مغفل مثلي؟
وأصّر على حبّي لراضي حباً يستحقه بصفته الإبداعية، وبالقدر نفسه أحب فلاناً وفلانة وعشرات المبدعين العراقيين العمالقة الذين أخجل من رؤية ما يقدمونه على الفضائيات، وأتمنى أن يسألوا أنفسهم عن أسباب القبول بأعمال تُخجل تواريخهم.. وكم تساءلتُ: لماذا يقبل الفنان العراقي (حين يصبح اسماً معترفاً به من المؤسسات الفنية. ويرسخ في ذاكرة الناس حباً وإعجاباً) بأي عمل كيفما كان، هل هو في إطار التراجع الذي يشهده الذوق العام، أم هي الحاجة؟
وأقلّبُ الفضائيات العراقية، وأبحث عن أحدهم –مذيعاً أو مذيعة- إلا من رحم ربي، يُحسنُ اللغة العربية وقواعدها ومخارجها ونطقها وأين يجب التوقف، وكيف يعطي للاستفهام حقه، وكيف يتعامل مع العبارة الساخرة أو الحماسية أو الجادة، وأقول لنفسي: لا عليك يا رجل فأنتَ بدورك أضعتَ العرب والعربية والصرف والبلاغة و… واللغة أمر مقدور عليه، بعد أن فقدت آذاننا حساسيتها، واختلطت عليها الألسن، ولم يعد الخطأ يخدشها، ولكن بأي وجه تقابل فضائياتنا –إلا التي حافظت على نقاوة ضميرها- وهي تجاهر بطائفيتها وتفتخر، وجه ربها ووجه الوطن ووجوه العباد، وهي ترى أن العراق منصوص عليه في التاريخ والجغرافيا والدين، إنه موطن السُنّةِ ووطنهم ولا موطئ قدم فيه للشيعة والكرد والتركمان، أو أنه شيعي ولا وجود فيه لغيرهم، أو أنه مسلم أما الآخرون فغرباء طارئون، أو أنه.. فلماذا أيها العجوز لا يصرخ المتنبي في أعماقك (كفى بك داء) وأنت تعيش غرابة العصر وعصر الغربة، ولماذا لا أسأم من الفضائيات مثلما سئمت من ذكرياتي وتاريخي ونفسي؟