عامر بدر حسون /
بطريقة ما فإن حالنا حال أوروبا بعد الحرب العالمية الاولى.
هناك، بعد الحرب وفظائعها، فقد الإنسان إحساسه بقوّة القيم التي آمن بها وانفتحت حياته على الخيبة والخسارة وعدم جدوى تحويل الإنسان الى بني آدم.. والى آخر ما يشبه حالنا اليوم!
في تلك الفترة عبّر (ت. س. إليوت) عن خيبة الأمل هذه بقصيدته الشهيرة (الأرض اليباب) (1922) والتي ألحقها بقصيدة (الرجال الجوف) (1925) والتي ابتدأها بالقول:
نحن الرجال الجوف
نحن الرجال المحشوون
المتكئون على بعضهم
مثل حزم ملأى بالقش
***
عندما نهمس سوياً
تنبعث أصواتنا المبحوحة
هادئة وعديمة المعنى
كالريح بين ثنايا العشب الجاف
ونحن في مخبئنا الموحش
أشكال بلا هوية
وظلال بلا ألوان
قوى مشلولة.. وإيماءات جامدة
***
عندما يتذكرنا أولئك الذين عبروا بجسارة
إلى مملكة الموت الأخرى
لا يتذكروننا كمفقودين ذوي نفوس جامحة
بل كرجال جوف.. كرجال محشوين!
والقصيدة قاسية في التعبير عن خيبة أجيال وانهيار قيم ومنظومة أخلاقية وإيمانية والخ.
وقد ظهرت في الثقافة العربية، وفي نفس الفترة تقريباً ولنفس الأسباب، قصيدة يتيمة لعباس محمود العقاد وقد مرت مرور الكرام على ثقافتنا.. وفيها ابتكار في المعنى (وهو نادر في الشعر العربي).. ولسوء الحظ فإن القصيدة ليست في متناولي الآن لكنني أتذكر معناها وهو المقصود بهذه السطور.
يقول العقاد إن إبليس عندما تمرد على الله وأخذ على نفسه عهداً بإفساد البشرية لإثبات رأيه في ابن آدم.. جرّب مع الإنسان الذهب والفضة والسلطة فصمد بعض الناس في وجهه.. وجرّب النساء بالرجال والرجال بالنساء فصمد رجال ونساء في وجه إغراءاته.. وعندما يئس من إفساد كل البشر توصل الى الجملة التي تسببت بالحروب بين الأمم وبين الأفراد حتى داخل العائلة الواحدة!
هذه الجملة هي:
أنا على حق!
***
قد لا ندرك عمق هذه الفكرة الأصيلة لأن ثقافتنا تشتغل وتفكّر بطريقة “الرجال الجوف” المحشوين بالقش.. والذين كل معاركهم الحياتية والفكرية والسياسية قائمة على نطق هذه الجملة بأية صيغة تكلموا.. والتي طوروها الى محاولة إرغام الآخر على الإقرار بأننا على حق، فإن لم يقتنع قتلناه ودمرنا بيته ومدينته وبلده!
تقول القصيدة إن الناس قبل تلقين إبليس لهم بجملة: “أنا على حق” كانوا يتناقشون بانفتاح أكثر ويختلفون دون أن تؤدي خلافاتهم الى كوارث أو قسر أحد على التسليم بصحة رأي الآخر.. وعلى العكس من هذا كان اختلاف الأفكار بينهم يغني حياتهم ويطوّرها ويجعل عقولهم أكبر وروحهم أكثر شفافية ومودة ودفئاً.
***
هل تكفي قصيدة أضعتها الآن لتغيير عقول ثقافتنا وسياستنا وطرق تفكيرهم؟
إن لم ينفعك التخلص من هذه الجملة في التخلص من الحروب، فتخيّل علاقتك بالأصدقاء وبالعائلة وقد قامت على أساس غياب كلمة “أنا على حق” أو الحق معي أو الحق عليك وكلها من نتاج إبليس!
قبل أن تقطع مع الصديق والحبيب حبال الود والتفاهم فكر كثيراً قبل أن تقول أنا على حق! وتذكر دائماً في أي نقاش أنها جملة إبليسية.. وقد تخلّص منها “الأبالسة” في العالم المتحضّر فتطوّروا وتنوّعت عندهم الأفكار.. لكنها وجدت في ثقافة وسياسة وتعصب الرجال الجوف عندنا سوقاً رائجة في حياتنا.. بكل أسف!