نحو بانِقياء!

جمعة اللامي /

“ارجعوا إلى نفوسكم واعرفوها، فإن الحياة والموت، الخير والشر،
السعادة والشقاء، كل هذا في نفوسكم، فأقرأُوه”
(سقراط)
تعصّب بغترته العراقية، وتحزم بنطاقه الأحمر، ورفع دشداشته قليلاً فوق قدميه، وقال لزينب: الحمد لله. حانت ساعة الرحيل. قلتُ: إلى أين يا غريب؟
قال: إلى بانِقياء.
كانت زينب ـــ الآن ، بجانبه، تلفُها عباءتُها العراقية، تمسك بالمصحف الشريف بكفها اليمنى، وتقول: لو سقطت “ظاهر الكوفة” بأيدي الأشرار ـــ لا سمح الله ، سقط العراق كله بأيديهم . تلجلجتُ، ثم شعرت، بعد برهة، أن الدنيا تميد بي، وأن الأرض زُلزلت تحت قدميّ، وأن عياطاً يملأ الكون من أقصاه إلى أقصاه : يا لثارات الشهداء والأخيار والأنبياء والصديقين.
كان غريب المتروك يبتسم في وجهي، كأنه يقول لي : يا صاح، هناك لحظة إن فاتت على الإنسان، ذهب عمره كله سدى، وإن استمسك بها وعلا معها، أعاد صنع حياته من جديد، وسار مع المستقبل.
قلت: أنت تعيدني إلى اختيار “تشي غيفارا” في حقل القصب، قبل أن يترك مهنة الطبيب، ليلتحق ــ نهائياً بالثورة.
قال المتروك: قبل غيفارا، كان هذا اختيار الفتى علي بن أبي طالب،، وهتاف المقداد الكندي، وصولة الحمزة وانغمار الغفاري في العدل.
أعدتُ نظري إليهما، وأخذت اتقصّى تاريخهما الشخصي: هذا المتروك لم يعرف سوى قول الصدق والتخلق بأخلاق رسول الله. وهذه زينب أعدّت نفسها، منذ عقود، ليوم تهتف فيه: حيّ على الجهاد.
قلت: بورك فيكما، وكان الله معكما في كل خطوة منكما نحو العراق.
قالت زينب: يا أخي .. ستعلم ـــ إن شاء الله ، أننا وضعنا خلفنا التباسات ثقافية، وإعلانات سياسية ناقصة، وبيانات فكرية غير مجدية، واخترنا الوطن، نعم الوطن، كله في ميلاد جديد عنوانه : العراق الحر لأبنائه الأحرار، فهو موئل لكل من يريد أن يتجه إلى الحقّ وحده، وهو محطة شُراة الجنة.
قلت: هل تدبرتما أمر أمنكما الشخصي؟
قال المتروك: قل: هل عرفتما نفسيكما؟ وبعد ذلك كل شيء في متناول اليد.
وعند ذلك شاهدت قبة ضريح الإمام علي ، ورأيت شمسَ العراق في متناول اليد اليمنى لزينب.
تحية لمدينة النجف ، التي هي بانقياء أيضاً.