حسن العاني/
لا يقع في دائرة معلوماتي، أنّ أحداً مثل العرب عني بمفردة (لا)، وأولاها من الاهتمام ما يفوق التصور، وليس أدلُّ على ذلك من المهلهل (أول من أنشد الشعر أو هلهل به)، أطلق أول (لا) في رثاء أخيه “كليب لا خير في الدنيا ومن فيها..الخ”، وإذا عمدنا الى قول النقاد بأن الشعر ديوان العرب، فالعودة الى هذا الديوان تكشف لنا مدى ارتباط العربي بهذه المفردة، ويمكن أن نلاحظ في هذا المجال أنواعاً عديدة لمفردة (لا) ومسمياتٍ كثيرة، وأنها تدخل على الأسماء والأفعال، ولكن العرب انشغلوا بلا النافية عامة، ولا الناهية خاصة، ففي أسلوب النهي رفض واعتراض واحتجاج، يتناسب مع البناء النفسي للعرب، ورثة الحرية والبداوة والصحراء، ومن هنا في سبيل المثال، قالوا في النفي (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. الخ) وقالوا ما لا يحصى ولا يعد في النهي، ليس ابتداء بقولهم: لا تشتر العبد الا والعصا معه، ولا انتهاء بقولهم (لا تنه عن خلقٍ..) بحيث يبدو وكأن الشاعر نصّب نفسه أميراً أو زعيماً مطاعاً يصدر ما يحلو له من أوامر!!
والشاعر هنا يمثل مزاج الأمة وضميرها، ولهذا لم تتوقف لغة الأوامر والنواهي على الشعراء فقط، بل انعكست كذلك لاشعورياً على أقوال العرب وخطبهم وأمثالهم، (لا فضّ فوك/ لا آتيك سنّ الجبل/ لا تأكل السمك وتشرب اللبن.. الخ)، ولعله أمر طبيعي أن يسلك الأحفاد طريق الأسلاف، ويزيدوا عليها، حتى بلغوا حدود التهويل، وإلا كيف نفسر عتابَ حبيبٍ لحبيبته بصياغة تأخذ أسلوب الشتيمة العلنية (لا تكذبي..!!) وكيف نفسر أو نفهم، خروج ملوك العرب وزعمائهم ورؤسائهم في قمة الخرطوم الشهيرة، بثلاث (لاءات) وليست واحدة، لم تُطبقْ على أرض الواقع أيٌّ منها!!
تجربتي تؤكد أن العراقيين، بعربهم وقومياتهم الأخرى، ودياناتهم، كانوا ومازالوا سادة هذه المفردة، وبالإمكان تلمسها في كل ناحية من نواحي الحياة العراقية، فهي لغة الأطفال والكبار والنساء والرجال، ولغة الحكومة تجاه المعارضة، والمعارضة تجاه الحكومة، وهي مبثوثة من دون حساب في أحزاننا وأفراحنا وأغانينا العاطفية.. ثم لا نعدم من قراءة لافتةٍ مكتوبة على ظهر مركبة كبيرة، يطلقُ فيها السائق أوامره الى الآخرين (لا تفكر.. لها مدبر) أو (لا تتبعني.. أنا مخطوبة)!!
منذ تأسيس الدولة العراقية قبل مئة سنة تقريباً، والعراقي منهمك في السياسة، منشغل بها، أكثر من انشغاله بعمله وبيته وحبيبته، فنحن نريد الأميركان مثلاً لتخليصنا من دكتاتورية صدام، ولا نريدهم لأنهم محتلون.. نريد حكومة وشرطة ورجال أمن لضبط أوضاعنا المنفلتة، ولا نريدهم لكونهم عناوين لكبت الأنفاس والسلطة الظالمة.. نريد فضائيات وصحافة وحريات تعبير، ولا نريدها لأنها تصب الزيت على النار وتشعل لهيب الطائفية، نريد أحزاباً ولا نريد لأسباب معروفة، نريد حكماً ملكياً ولا نريد، نريد حكماً جمهورياً ولا نريد، نريد دولة علمانية أو دينية أو عسكرية، ولا نريد أياً منها، وهذا هو موقفنا من الديمقراطية. إن (لا) هي العنصر الأساس والثابت في تكوينة شخصيتنا، حتى أصبحنا لا ندري ماذا نريد، وماذا لا نريد، والاستمرار على هذه الحالة المترجرجة يؤدي الى التهلكة، ولهذا تنادى عقلاء العراقيين وأخيارهم وحكماؤهم ووجهاؤهم، وتوجهوا في مسيرة حاشدة الى مبنى الأمم المتحدة، وهم يرفعون لافتاتٍ تدعو الأمين العام لتقديم المساعدة العاجلة الى العراق، كي يعرف ماذا يريد، وأين يتجه، وإعانة الشعب على تحديد موقفه الواضح والنهائي من الدستور والحكومة والانتخابات والمعارضة والأحزاب و.. وقدموا طلباً تحريرياً في ذلك، أكدوا فيه إنّ عدم الاستجابة الفورية سيؤدي الى حلول كارثة لا تحمد عقباها، ثم عادت المسيرة أدراجها، وهي تهتف: لا نريد المساعدة من أحد!!