نرمين المفتي /
بلحية بيضاء، شعر خفيف وصلعة واضحة، يرتدي سماعة طبية في أذنه، ومحجرين بلا عينين، وكأنة ولد ضريراً. في الصورة، يجلس الرجل في زاوية شارع ما على علبة صفيح متكئاً على سياج أو أنابيب لم أعرف ما هي مهمتها، ويضع فوق فخذيه ما يشبه الوسادة عليها (كارتونة) جواريب وليف حمام معلقة بالكارتونة جيداً.. الصورة لوحدها تشكل رواية.. ربما هناك من سوف يسألني كيف عرفت أن الصورة في شارع عراقي؟ وجوابي من (الليفة) التي تُحاك يدوياً من القش او الصوف وبمثل هكذا (موديل)، وموجودة في العراق فقط.. في الصورة أيضاً، الفم مفتوح ولا أثر للأسنان، لا أدري إن كان يتفوه بكلمات لعرض بضاعته للبيع، أو أنه كان يتألم، ومع (الآه أو الآخ العراقية) التقط عابر سبيل صورته.. ترى، أي سياسي، أو نائب، قرأ هذه الرواية الباذخة الألم؟ أو في الأقل توقف عندها وهو يمر بالشارع نفسه، وأتعب نفسه لثوان و(تكرم) بالنزول من مركبته ليسأله عن وضعه؟ ربما سيعترض قارئ ما قائلاً إن مشاهد الفقر موجودة في كل دول العالم.. وسأقول إنه على حق، لكن الدول التي تحترم شعوبها لديها برامج واضحة ومعلنة لمكافحة الفقر، ولاسيما مع خطط الأمم المتحدة التي تفيد بأن القضاء على الفقر بجميع أشكاله هو من أولويات الأهداف السبعة عشر لخطة التنمية المستدامة لعام ٢٠٣٠.. بينما لم نسمع بأية خطة في العراق! هنا أشير إلى أن الجمعية العام للأمم المتحدة في ٢٢ كانون الثاني ١٩٩٢ ومن خلال قرارها ٤٧/١٦٩ أعلنت ١٧ تشرين الأول من كل عام يوماً دولياً للقضاء على الفقر، ولم أسمع برنامجاً إذاعياً أو تلفزيونياً، ولم أشاهد ملصقات في الشارع في العراق خاصة بهذا اليوم منذئذ وحتى الآن.. وللعلم فإن دولاً فقيرة عديدة تمكنت من تقليل نسبة الذين تحت خط الفقر، قبل الجائحة، بينما لم نلمس أي تحسن في العراق، الذي ارتفعت فيه النسبة مع الجائحة التي بدت وكأنها شماعة إنقاذ لتعليق الفشل في مكافحة الفقر عندنا..
في صباحات الجمعة.. لو (يتكرم) أي مسؤول، نائب او صاحب حزب سياسي، ويمر بساحة الميدان في بغداد ليشاهد، بعينيه، صور الفقر المدقع من خلال البضائع البسيطة جداً المعروضة للبيع، بعد أن ينزع نظارته الغالية الثمن ويترجل من مركبته المصفحة.. في جمعة -قبيل الجائحة- كان يقف رجل لا يختلف عن الرجل الذي في الصورة الموجعة، سوى أن عينيه كانتا بالكاد سليمتين، يعرض ثلاثة صحون من الفرفوري للبيع بألف دينار، حاول أحدهم أن يمنحه المبلغ بدون أن يأخذ الصحون، انتفض الرجل قائلاً بأنه ليس متسولاً وإن المبلغ يكفيه وزوجته لشراء أربعة أرغفة خبز.. تُرى أين كرامة الفاسدين والمفسدين من كرامة ذلك الرجل؟