د. حسن عبد راضي /
تنقل التواريخ والتفاسير أن قريشاً احتجّت على رسول الله صلى الله عليه وآله، وعيّرته بأنه “يأكل الطعام ويمشي في الأسواق” أي أنه خالف سيرة الأكاسرة والأباطرة والملوك الذين كانوا يترفعون عن ذلك، ولا يخالطون الناس في الأسواق والشوارع كبراً وغروراً وطغياناً. ولئن كان ذلك في أيام دعوته المكية قبل أن تتحقق دولة المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية الشريفة، فإن الرسول الأكرم (ص) ظل يتواضع للناس صغيرهم وكبيرهم، ويرتاد الأسواق ويأكل من الطعام ما جشُب، ويلبس من الثياب ما خشُن حتى بعد أن دانت له جزيرة العرب من أقصاها حتى أقصاها.
فإذا كنا نحتفل كل عام في ذكرى المولد النبوي الشريف، وننفق المال على مظاهر الابتهاج والفرح بتلك الذكرى العطرة على اختلاف مذاهبنا، ونرفع شعاراً يقول: محمدٌ قدوتنا، وننتفض إذا أساء أحد إلى قدر الرسول الأكرم (ص) كما حدث مع شارل ايبيدو وما قبلها وما بعدها، فما بالنا لا نحرص على اتباع سيرته الملهمة، لا سيما تواضعه في الحياة العامة وعدم انتفاعه من الوظيفة العامة، وعدم تعيينه أقاربه في المناصب الحساسة وعدم احتكاره الوظائف، ولم يكن “يغلّ” أي يخون في المغانم حاشاه، ولم يكن إذا سار تُقطع له الطرق، ولا تخصص له مواكب السيارات مظللة الزجاج ولم يكن مخولاً بمخالفة القوانين بينما وظيفته صيانتها، ولم يكن مسموحاً له السير عكس مسار الشارع، ولم يكن يبتز الناس أرزاقهم، ولا يمنع عنهم المشاريع إذا لم ينتفع منها.. وثمة آلاف الأشياء التي لم يفعلها مع قدرته على فعلها.
وما بالنا لا نجد قدوتنا السياسية المعاصرة في أحد منا، بل نجدها في ميركل وفي أي مسؤول أوروبي يذهب إلى عمله على دراجة هوائية أو بسيارته الشخصية المتواضعة من دون حمايات ولا خفق نعال خلفه ولا مصورين يتدحرجون من بين يديه ومن خلفه! لقد رأينا هؤلاء الذين يحكمون دولاً عظمى وتحت أيديهم أزرار نووية يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق شأنهم شأن أي مواطن من شعوبهم، ولعل تلك هي المسألة، فعندما تختار الشعوب الحية قادتها ومسؤوليها فإنما تختارهم ليكونوا مسؤولين بالمعنى الحرفي للكلمة، لا أن يكونوا آلهة يتمترسون بالقصور والحرس والأسوار، المسؤول الأوروبي الذي قدوته محمد – سواء أكان يدري بذلك أم لا يدري – يعتذر إذا أخطأ، ويستقيل إذا أخفق، وقد ينتحر إذا كان الإخفاقُ فادحاً.
لقد فشلنا طويلاً لأننا نريد من المواطن كل شيء، ولا نريد من المسؤول أي شيء، بل نحن نوفر له كل شيء ونحرص على راحته وخدمته وتحطيم القوانين لأجله، باختصار وليزعل مني من شاء: المسؤول في العراق له امتيازات الأباطرة والأكاسرة وأكثر، ويريدنا أن ننظر إليه كالأولياء والصالحين،.. وهيهات.