زياد الهاشمي /
ساهمت الأزمات والحروب والصراعات التي مر بها العراق طوال العقود الماضية، وارتفاع منسوب التأثير السياسي، وتوسع الفساد، بتدهور كبير في المنظومة المصرفية العراقية، كما ساهمت في نشوء نزعة اقتصادية غير صحية دفعت المجتمع العراقي، أفراداً وشركات، للميل نحو اكتناز النقد في المنازل والمكاتب، وتداولها بعيداً عن الحسابات المصرفية،
بسبب ضعف الثقة في النظام المصرفي والبيئة الائتمانية العراقية، جراء إفرازات السنوات والعقود الماضية، حتى أصبحت لدى العراق كتلة نقدية هائلة تقدر بحدود 95 ترليون دينار عراقي من أصل ما يناهز 109 ترليونات دينار، أو 87 % من الكتلة النقدية المصدرة خارج النظام المصرفي العراقي.
هذه السيولة الهائلة المتكدسة خارج المصارف العراقية، تعبر أيضاً عن حالة ضعف في ثقافة الادخار والائتمان، التي تتعلق بتفضيل الكثير من الأفراد والأعمال إتمام المشتريات، أو حتى التعاملات التجارية، باستخدام النقد الورقي، لما في ذلك من موثوقية وسرعة إنجاز، بحسب اعتقادهم. في المقابل، فإن المدخرات المالية، التي تتجمع عادة على شكل ودائع في البنوك، تمثل سيولة يمكن للنظام المالي استغلالها وتدويرها لتوسيع الائتمان وتحقيق مستوى أعلى من الاستقرار المالي والنقدي وتحجيم التضخم.
تجارب ناجحة
وبالرغم من كل التحديات والتعقيدات التي يواجهها النظام المصرفي العراقي، إلا أن النجاح في تفكيك عقدة الاكتناز النقدي ليس مستحيلًا، فهناك تجارب ناجحة حدثت في دول أخرى كانت تعاني من نفس المشكلة. في الهند مثلاً، أطلقت الحكومة عام 2016 مبادرة إلغاء التداول بالأوراق النقدية الكبيرة، مع حملات لتشجيع الإيداع البنكي، ورغم التحديات الأولية، إلا أن الودائع زادت بشكل كبير، ما سمح بتمويل مشاريع عديدة. كينيا، من جانبها كذلك، اعتمدت على الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول مثل نظام “إم-بيسا” لتجذب السيولة المكتنزة من المناطق الريفية، فأصبح أكثر من 70 % من السكان يتعاملون ماليًا عبر هواتفهم، ما عزز عمليات الاستثمار المحلي. أما تركيا، فقد نجح نظامها المصرفي بتقديم منتجات مالية إسلامية تحت إطار نظام المرابحة وحوافز ضريبية متنوعة وجذابة، ما قلل الاكتناز وزاد التمويل للقطاع الخاص.
تحدي الاكتناز وحرمان النظام المصرفي العراقي من كتلة نقدية ضخمة، وتقييد النشاط الائتماني، الذي يعد أحد أهم العمليات التي من المفترض أن تقوم بها المصارف لدعم النشاط الاقتصادي العراقي، يتطلب معالجات متنوعة لتصحيح هذا الوضع المختل، فالخطوة الأولى تبدأ بإعادة بناء الثقة. حيث يمكن للمصارف العراقية، بدعم من البنك المركزي العراقي، تفعيل نظام تأمين الودائع بشكل حقيقي لضمان أموال المواطنين وتعزيز الحوكمة في المصارف لزيادة الشفافية ومنع الفساد والبيروقراطية التي تدفع المواطنين إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي، وفي نفس الوقت العمل على تعزيز الشمول المالي عبر زيادة الفروع ونقاط الخدمة في المناطق والأقضية والنواحي لتسهيل الوصول إلى الخدمات المصرفية وتقديم منتجات مبتكرة تتعلق بتطوير عمليات الدفع الإلكتروني والمحافظ الرقمية وتخفيض تكلفة التعامل الإلكتروني من خلال دعم التجار والمستهلكين لتقليل الرسوم على المعاملات الرقمية، فالتعاملات عبر التطبيقات المصرفية المبسطة والبطاقات الذكية ذات الرسوم التنافسية تعد أدوات فعالة لجذب الجمهور غير المتعامل مع البنوك، وحث الأفراد على زيادة الاعتماد على الإيداع المصرفي.
فوائد جذابة
من جانب آخر، يمكن تحسين كفاءة الإقراض وتسهيل الوصول إلى التمويل عبر تقديم فوائد جذابة على الودائع، تغري الأفراد والتجار للانضمام الى النظام المصرفي، مثل تقديم فوائد مغرية على الودائع الطويلة والقصيرة الأجل وإطلاق برامج تحفيزية مثل برامج الجوائز المالية أو التخفيضات الضريبية للمودعين، أو تقديم تسهيلات ائتمانية واسعة النطاق للأفراد والشركات بشرط الإيداع المسبق، وإطلاق برامج القروض الصغيرة والمتوسطة مع تسهيلات في الضمانات والفوائد لتشجيع المشاريع الصغيرة على الانضمام إلى النظام المصرفي وتمويل المشاريع الريادية والشبابية لدفع الشباب وأصحاب المشاريع الصغيرة إلى فتح حسابات بنكية، والاستفادة من التمويل الرسمي، بدلًا من اللجوء إلى الاكتناز او التعاملات خارج النظام المصرفي النظامي. وفي الجانب الحكومي، فإن إلزام المؤسسات الحكومية والخاصة بالدفع الإلكتروني، مثل دفع الرواتب إلكترونيًا وإلزام الشركات بتقديم خدمات الدفع الإلكتروني، سيسهم في سحب الكتلة النقدية بوتيرة أعلى وإبقائها داخل المنظومة المصرفية زمناً أطول، وبالتأكيد فإن تنظيم السوق الموازي وضبط التعاملات غير النظامية عبر تشديد الرقابة على الأموال غير المسجلة رسميًا، وفرض قيود على المدفوعات النقدية الكبيرة للحد من التعاملات النقدية في القطاعات التجارية والعقارية، تعد مسألة جوهرية في تقليل الفجوة بين السعر الرسمي والموازي للدولار ومكافحة تهريب وغسل الأموال، الذي يشجع بدوره على انتقال الأموال تدريجياً الى الحسابات المصرفية بدلًا من عمليات السوق الموازي غير النظامية. بالتوازي مع ذلك، فمن المهم أيضاً إطلاق حملات وطنية توعوية حول مخاطر الاكتناز وفوائد الإيداع عبر وسائل الإعلام والترويج لفوائد الخدمات المصرفية مثل الأمان، وزيادة العوائد، وإمكانية الوصول إلى القروض والتسهيلات المالية، إضافة الى عقد ورش عمل مستمرة والتعاون مع الجامعات والمدارس لإدراج الثقافة المالية في المناهج الدراسية لتعزيز المعرفة المصرفية لدى الأجيال القادمة.
أهداف ستراتيجية
عودة السيولة النقدية الى مكانها الطبيعي والأساسي داخل الحسابات المصرفية سيرفع المعروض النقدي وقاعدة الودائع داخل النظام المصرفي العراقي، الذي يساهم بدوره، وبشكل مباشر، في توسيع نطاق التسهيلات والخدمات المصرفية لكل الفئات، سواء لزيادة الاستثمار، أو توسيع الأعمال بشكل أكبر، وتسريع النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل كبيرة للأجيال الجديدة، بعيداً عن التوظيف الحكومي، الى جانب زيادة الإيرادات الحكومية من ضرائب ورسوم، ما يعزز من حجم الناتج المحلي غير النفطي ويخفف الضغط على المالية العامة ويسهم في تقليل الاعتمادية العالية على الريع النفطي، وهذه كلها أهداف ستراتيجية يسعى العراق للوصول لها منذ زمن طويل.