زياد الهاشمي
شهد العالم توسعاً كبيراً طوال السنوات الماضية في حجم النشاط الاقتصادي، رافقته زيادة مضطردة في الحركات المالية المحلية، وتطور هائل في القطاع التكنولوجي، الذي فتح الباب واسعاً لنشوء وتطور قطاعات اقتصادية جديدة لم تكن موجودة سابقاً، أهمها ما يعرف بالاقتصاد الرقمي، الذي يعتمد بشكل رئيس على التقنيات الرقمية في التعاملات التي تجري عبر الشبكة العنكبوتية، كالتجارة الإلكترونية والخدمات المصرفية الرقمية وإنترنت الأشياء، وغيرها من النشاطات.
هذا التطور في التكنولوجيا الرقمية والتحولات الكبيرة التي حدثت في مفهوم المال والتعاملات المالية، أسهماً بشكل كبير في إطلاق ما يعرف بالعملات المشفرة، وهي عملات تتسم باللامركزية، يستحيل تتبع حركاتها، التي وجدت مع مرور الوقت مجالاً واسعاً للانتشار وزيادة الطلب على شرائها، لأسباب عديدة، من أهمها الاستثمار في تلك العملات، وكذلك استخدام هذا النوع من العملات في عمليات الدفع الرقمي والتحويل المالي، الذي يجري بعيداً عن أعين ورقابة ورسوم المنظومة المصرفية التقليدية. وقد أسهمت زيادة النزعة لدى الأفراد والأعمال للمضاربة والاستثمار في العملات المشفرة، والميل أكثر نحو وسائل وطرق الدفع الإلكتروني والتحويلات الرقمية، في سرعة انتشار وتوسع قاعدة العملات المشفرة، حتى بلغت أعدادها الألوف. هذا النوع من العملات المشفرة شكل تحدياً هيكلياً كبيراً للمنظومة النقدية الرسمية التقليدية حول العالم، ولاسيما البنوك المركزية، ما دفعها إلى التحرك جدياً للتعامل مع مخاطر العملات المشفرة على الاقتصادات العالمية، من خلال إصدار حزمة من التشريعات لتقنين وتنظيم تداول تلك العملات، بالإضافة إلى مبادرة العديد من البنوك المركزية لإطلاق عملات رقمية رسمية تكون بديلاً رسمياً آمناً، يتمتع بالثقة والاستقرار، وقابلاً للتداول، ومتوافقاً مع سياسات الاقتصاد الكلي، ضمن نطاق مركزي قابل للتتبع، يضمن للبنوك المركزية الحفاظ على دورها الرقابي والتنظيمي.
فقد أطلقت الصين اليوان الرقمي منذ عام 2020 في عدة مدن كبرى، وهو الآن في مرحلة متقدمة من التطبيق الفعلي، حيث جرى التوسع في استخدامه ليشمل المدفوعات اليومية والمعاملات الحكومية، كما يمكن استخدامه في عمليات الدفع الإلكتروني عبر تطبيقات الهواتف الذكية، كما يعمل الاتحاد الأوربي لإطلاق عملة رقمية أوربية موحدة يطلق عليها اليورو الرقمي، ونفس الوضع يشمل الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تسعيان أيضاً لإنشاء الدولار الرقمي والجنيه الإسترليني الرقمي. وفي الجزء الإسكندنافي من أوربا، تعمل السويد لاستبدال الكرونا الورقية بـ (الكرونا الإلكترونية e-Krona)، بسبب تراجع استخدام النقد التقليدي فيها، والتوجه شبه الكامل نحو المدفوعات الإلكترونية. وفي آسيا أطلقت الهند مشروعاً تجريبياً للروبية الرقمية في عام 2022، بهدف تعزيز النظام المالي وتقليل الاعتماد على النقد الورقي، وقد أعلنت كوريا الجنوبية أيضاً عن خطط لإطلاق عملة رقمية بحلول 2025 وكذلك هو الحال مع الإمارات العربية المتحدة، ضمن ستراتيجيتها لتصبح مركزاً مالياً عالمياً.
هذا الحراك العالمي نحو رقمنة العملات الوطنية حفز البنك المركزي العراقي لإعلان نيته إصدار عملة رقمية عراقية قد يُطلق عليها “الدينار الرقمي العراقي” كبديل تدريجي للنقود الورقية، وهي خطوة قد تمثل تحولاً ثورياً في النظام النقدي والمصرفي العراقي. تهدف هذه المبادرة إلى تعزيز الكفاية المالية والمساهمة في تقليل التسرب النقدي، وفك عقدة الكتلة النقدية المكتنزة وجذبها نحو النظام المصرفي، وزيادة ضبط العمليات المالية غير النظامية وغير القانونية، إذ تدعم العملة الرقمية من درجة الشفافية، وتسهل إدارة السياسات النقدية من خلال توفير بيانات دقيقة عن التدفقات المالية وتتبع المعاملات إلكترونياً، ما يحد من الفساد والاقتصاد الموازي، الذي لايزال يشكل نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي في العراق. إضافة الى ذلك، فإن التحول نحو العملة الرقمية يمكن أن يقلل بشكل ملموس من تكاليف طباعة النقود الورقية وصيانتها، وهو أمر مهم لاقتصاد يعاني من ضغوطات مالية. كما أن هذا التحول الرقمي يمكن أن يعزز الشمول المالي، من خلال تمكين الفئات غير المشمولة بالخدمات المصرفية، مثل سكان المناطق الريفية، من الوصول إلى الخدمات المالية عبر الهواتف الذكية.
وبالرغم من ترحيب بعض الأوساط المالية والاقتصادية العراقية بمبادرة الدينار الرقمي تلك، إلا أنه من المهم التأشير إلى جملة من التحديات التي تواجه مثل هذا التحول الهيكلي الكبير. ومن أهم تلك التحديات هو غياب الأطر التشريعية والتنظيمية الكافية لضمان الامتثال للقوانين المالية، مثل مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وحماية الخصوصية للأفراد والأعمال والمؤسسات، إلى جانب الواقع الصعب للنظام المصرفي العراقي التقليدي، الذي لايزال جزء كبير منه يعاني من عقوبات فيدرالية، وتقييد في التعاملات المصرفية، وتقادم الأنظمة الإدارية والفنية، ومحدودية ارتباطاته مع المنظومات المصرفية الدولية. وهذا يجرنا لتسليط الضوء على المشكلة المزمنة المتعلقة بضعف الثقة المجتمعية بمجمل المنظومة المصرفية العراقية، وضعف وعي الأفراد وقدرتهم على التكيف مع التعاملات والعملات الرقمية، فالكثير من الناس لايزالون يفضلون اكتناز الأموال والتعامل بالنقود الورقية لأسباب تتعلق بالعادات، أو ضعف الثقة في التكنولوجيا، وهذا قد يتسبب بمقاومة ثقافية مجتمعية للدينار الرقمي، إضافة إلى ضعف البنية التحتية التكنولوجية في العراق، التي تقيد قدرة الأفراد والأعمال للحصول على الإنترنت السريع والمستقر بشكل واسع، خاصة خارج المدن الكبرى، ما قد يعيق استخدام العملة الرقمية بفعالية، وهذا ما قد يجعل الاعتماد على الدينار الرقمي عبئاً مالياً وإدارياً وفنياً على البنك المركزي والنظام المصرفي، بدلًا من أن يكون ميزة.
لذلك يمكن القول إن إطلاق الدينار الرقمي في العراق يمكن أن يكون خطوة ثورية نحو اقتصاد أكثر حداثة وشفافية، لكنه يتطلب تهيئة الأرضية المناسبة من تشريعات وبنية تحتية وأمن وتوعية مستمرة. لذلك يبقى السؤال هنا: هل البنك المركزي العراقي جاهز حقًا لهذا التحول؟ وهل لدية الأدوات الكافية للتعامل مع التحديات القائمة وحلها لأجل تحويل هذا الهدف الى حقيقة؟ فنجاح هذه الخطوة يعتمد بشكل رئيس على مدى قدرة البنك المركزي على مواكبة ومعالجة تلك التحديات وتحقيق التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة وضمان الاستقرار المالي والتثقيف والتوعية وضمان الخصوصية للمستخدمين.