إيفان الخفاجي /
مشهد غامض وملتبس، أبنية كبيرة معززة بشبكة بنية تحتية متكاملة، تضم بين جدرانها مكائن حديثة عملاقة، لكنها بلا صوت بالرغم من وجود آلاف العمال ومئات المهندسين والفنيين. تلك هي الصورة الموحشة للمصانع العراقية الحكومية التي تزيد على 288 مصنعاً كبيراً وحيوياً مختصاً بالصناعات الحديدية والنسيجية والإسمنت والفوسفات والبتروكيماويات والورق والسكر والزيوت والألبان والصناعات الدوائية والزجاجية، ناهيك عن الصناعات النفطية وصناعات الأجهزة الدقيقة،وهذا العدد الكبير لا يدخل، بطبيعة الحال، ضمن القائمة الطويلة للصناعات العسكرية التي أوشكت في مرحلة من مراحل تطورها على الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض من إنتاجها الى دول مختلفة عربية وأجنبية.
أمس الصناعة.. مزدهر
منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي وحتى عقوده المتأخرة، وصولاً الى مطلع القرن الجاري، كان حجم الإنتاج الصناعي العراقي يلبي حاجة السوق المحلية، ويتم تصدير بعض منتجاته الى دول الإقليم وبعض الدول الأوروبية، وفقاً للبيانات الحكومية.
وقبيل عام 2003، كان القطاع الصناعي يشكل نحو 23% من الناتج المحلي للبلاد، إذ بلغت شركات القطاع العام زهاء 282 شركة مختصة بمختلف الصناعات المتوسطة والخفيفة، فيما تجاوزت مصانع القطاع الخاص المئة واثنين وستين ألف معمل ومصنع.
وفي عام 1989 مثلاً، صدّر العراق منتجات منشأة القادسية للصناعات الكهربائية في ديالى الى الاتحاد السوفييتي السابق، والمنتجات هي عبارة عن آلاف المحولات الكهربائية مختلفة القياسات وفق عقد تجاوزت قيمته العشرة ملايين دولار، علماً أن منتجات المنشأة من مولدات ومقاييس الماء ومكائن اللحام والمدافئ والأفران الكهربائية قد تم تصديرها الى دول الخليج العربي ودول أخرى في العالم بعد تغطية حاجة السوق المحلية، وبعد أن أصبحت هذه المنتجات منافساً حقيقياً لمثيلاتها من إنتاج الشركات العالمية.
ولم يقتصر الأمر، بطبيعة الحال، على هذه المنتجات، فقد كان العراق يصدر، إضافة الى النفط، الكبريت والفوسفات والجلود إلى دول شرق وشمال شرق آسيا ودول أوروبية عدة.
فوضى وخراب
أعلن النظام السياسي الجديد بعد عام 2003 إنهاء النظام الاقتصادي -شبه الاشتراكي- الذي كان سائداً، والشروع بالعمل وفق نظام الاقتصاد الحر والسوق المفتوح، ما يعني تشجيع النمو الاقتصادي المعتمد على القطاع الخاص مع تنشيط معامل ومصانع القطاع العام، وكذلك بناء قطاع مختلط يعتمد على تجارب الدول التي نجحت في هذا المجال.
لكن غياب الدولة ووهن الحكومات المتعاقبة خلال 18 عاماً سجل غياب أية ستراتيجية صناعية، كما سجل افتقار تلك الحكومات الى سياسات التسويق وتشريع القوانين الكفيلة بحماية وتشجيع المنتج الوطني، الأمر الذي فتح أبواب الاستيراد على مصاريعها دون أي اعتبار الى نوعية المنتجات المستوردة أو الأخذ بنظر الاعتبار حماية المستهلك من المواد رديئة الصنع التي أصبحت السمة المميزة لمجمل المنتجات المستوردة دون تدخل من الجهات الحكومية ذات العلاقة.
ولعب تدخل الدول الإقليمية في الشأن السياسي العراقي دوراً كبيراً في الموت السريري للصناعات العراقية من أجل فتح الحدود أمام بضائعها التي غزت العراق واستنزفت عملته الصعبة، حيث ناهز حجم الاستيرادات من إيران مثلا مبلغ 14 مليار دولار، فيما تجاوز مبلغ الاستيراد من تركيا مبلغ 18 مليار دولار، وكان الاستيراد من دول أخرى مثل الهند والصين ومصر والأردن بمبالغ كبيرة أخرى وإن لم ترقَ الى مبالغ الاستيراد من تركيا أو ايران.
ويؤشر وزير الصناعة الأسبق محمد صاحب الدراجي في حوار تلفزيوني الى “مخطط لتحطيم الصناعة العراقية بتنسيق وضغط من أطراف خارجية، وأن المهمة التي تفرضها قوى سياسية نافذة في العراق على أي وزير يكلف بإدارة وزارة الصناعة، هي إيقاف المصانع والمعامل المحلية والاعتماد على الاستيراد.”
وليس غريباً، والحال هذه، أن تتحول المصانع والمعامل العراقية الى خربة، وأن تباع المكائن التي استوردتها الدولة بمبالغ باهظة الى “سكراب” يباع بالوزن الى بعض دول الجوار.
عمال.. وحمال
يلزم وصول التطور الصناعي الى مرحلة متقدمة عقد اتفاقيات مع دول الجوار يجري بموجبها إنشاء مدن صناعية واقتصادية مشتركة لتطوير الصناعة والتجارة بين البلدان. وعلى هذا الأساس تلقى العراق من السعودية وايران والكويت وتركيا وسوريا والأردن طلبات رسمية للشروع ببناء مثل هذه المدن، وقد جرى بالفعل الانتهاء من الدراسات الأولية وتخصيص الأرض من الجانب العراقي لبناء مدينة صناعية اقتصادية مع الأردن، وسيلحقها في وقت لاحق بناء مدن مشابهة مع بقية دول الجوار.
ومعروف أن منتجات مثل هذه المدن تكون معفاة من الكمارك والضرائب، وهنا يطرح السؤال الأخطر: ما الذي سيصنعه العراق ويصدره في ظل الخراب الذي تمر به الصناعات العراقية.
في أحسن حالاتها، ستكون هذه المدن، وفقا لمعظم الخبراء والمحللين الاقتصاديين، ساحات ومخازن مجانية لبضائع دول الجوار العراقي، وسيصبح السوق العراقي “رسميا” مكباً للصناعات الرديئة لتلك الدول بمقابل استنزاف كبير لعملات البلد الصعبة التي يجنيها من بيع النفط. والأخطر من ذلك، أن العمال العراقيين سيتحولون الى “حمالين” لنقل وترتيب بضائع تلك الدول، ما سيؤثر سلباً على تطور مهارات الأيدي العاملة العراقية.
ليس بالنفط وحده.. يحيا العراق
في كلمة له خلال الملتقى الوزاري لآفاق طاقة المستقبل، حذر وزير المالية علي علاوي، من انهيار في إيرادات النفط سيواجهه العراق في السنوات الخمس أو العشر المقبلة.
ورسم علاوي مستقبلاً مظلماً للاقتصاد العراقي في ظل التوقعات بأفول عصر النفط الذي تعتمد عليه البلاد لتمويل موازناتها المالية خلال السنوات العشر الماضية، مطالباً بتنويع موارد العراق الاقتصادية واللجوء الى الموارد غير النفطية مثل السياحة وإنعاش القطاع الخاص. ولكن: هل بالنفط وحده يحيا العراق؟
يمتلك العراق ثروات كبيرة غير النفط يمكن لها أن تضعه في مصاف الدول الإقليمية، كحد أدنى، من ناحية التطور الاقتصادي ومستويات الدخل القومي ودخل الفرد العراقي السنوي، شريطة أن تتوفر له قيادة قادرة على ترميم وتشغيل آلاف المصانع العراقية المعطلة واعتبارها مهمة المهمات ووضع ستراتيجيات اقتصادية ناجعة وقادرة على توظيف موقع العراق الجغرافي ومكانته الدينية والسياحية وكذلك استغلال ما تكتنزه أرضه من خيرات طبيعية غير النفط.
يمتلك العراق ثروات طبيعية مهمة مثل الغاز والفوسفات والكبريت. فحقول الغاز، وهو مادة لا يمكن الاستغناء عنها خلال الزمن المنظور، تنتشر في مختلف المدن العراقية، ولاسيما في مناطق الأنبار التي تحتوي على احتياطيّ كبير من الغاز يمكنه أن يضع العراق في مصاف الدول المصدرة لهذا العنصر الحيوي في التدفئة ومختلف الصناعات.
ويشكل المجمع الكيمياوي المتكون من منجم ومصانع عكاشات للفوسفات الواقع في الصحراء الغربية ثروة وطنية عراقية كبيرة ولكنها مهملة، إذ يقدر الخبراء الاقتصاديون واردات الفوسفات بما لا يقل عن ربع واردات تصدير النفط الذي تعتمده الحكومة العراقية في تمويل ميزانية الدولة، وهو مبلغ كبير في كل الحالات، ولاسيما أن أسعار الفوسفات تكاد تكون شبه مستقرة عالمياً، على عكس أسعار النفط التي تتعرض لهزات كبيرة تدخل البلاد أحياناً في دوامة، لجهة توفير الميزانية السنوية سواء بشقها التشغيلي أو بشقها الاستثماري، وتجاوز الهشاشة الاقتصادية التي تعصف بالعراق وتضعه تحت مطرقة الديون الخارجية والداخلية.
أنشئت معامل المجمع الكيميائي عام 1978 على مساحة 3 ملايين متر مربع بعقد أولي قيمته مليار دولار- يضم معامل لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية كمنتج نهائي، ومنها معامل استخلاص الخامات من المنجم، وتركيز الخامات، وحمض الكبريتيك، وحمض الفسفوريك، ووحدات الخدمات الصناعية، ومعامل الأسمدة والأمونيا وأملاح الفلورين، ووحدة التداول.
وحقق المشروع نتائج مذهلة فاقت التوقعات وفاق إنتاجه مليون طن سنويا، وأصبح الهدف هو أن يحتل العراق المركز الأول عالميا في إنتاج الفوسفات والمشتقات الأخرى منه، إذ كان العراق يُصنف ثانياً قبل توقف انتاج عكاشات بعد المغرب الذي يملك أكبر احتياطيات الفوسفات في العالم ومن نوعية جيدة، إذ يقدر الاحتياطي في صحراء العراق الغربية بأكثر من 10 مليارات طن؛ وهذا يعني أنه يحتفظ بما نسبته 9% من إجمالي الاحتياطي العالمي من هذه المادة.
وقد جرت محاولات خجولة لترميم وإعادة تأهيل مشروع عكاشات ومنجمه ومصانعه وإعادتها إلى الإنتاج وجرى إعداد ملف استثماري لتأهيل الشركة ومعاملها، الا إن وزارة الصناعة والمعادن العراقية، رفضت الموافقة على عروض عدة لاستثمار المناجم من قبل شركات بريطانية وتركية وتشيكية، ورغم محاولات الشركات لاستحصال موافقة الوزارة، طوال سنوات، إلا أنها باءت بالفشل..!
ولا يختلف أمر الفوسفات عن أمر الكبريت، إذ يضم العراق أكبر احتياطي عالمي من الكبريت الرسوبي في حقول المشراق جنوب مدينة الموصل، والذي تقدر وزارة الصناعة احتياطاته بحوالي ثلثي الكبريت الموجود على الكرة الأرضية.
وتعتبر حقول المشراق أكبر حقول الكبريت الرسوبي، حيث يقدر الاحتياطي العالمي بـ600 مليون طن، وتعد الأكبر في العالم، وتقدر احتياطاتها بقرابة 360 مليون طن.
هذا مجرد غيض من فيض الثروات الطبيعية، غير النفطية، في الأرض العراقية وهي كافية ان تضع العراق بمأمن عن “المستقبل المظلم” التي رسمه وزير المالية على علاوي في حال أفول عصر النفط، غير ان هذا الأمر يحتاج الى مراجعة شاملة وحقيقية لواقع الصناعة العراقية ورسم خطط علمية لاستنهاض القدرات على تحويلها الى واقع ملموس يسهم في الحد من ظاهرة البطالة المتفاقمة والقضاء، أو الحد، من نسبة الفقر المتزايدة في البلد.