د. بلال الخليفة/
العملات العالمية كالحضارات.. لها فترة تنمو فيها وتصل أوج عظمتها، ولكن سرعان ما تصل للكهولة وتضعف قواها لتظهر بعد ذاك عملة أخرى تحل محلها، فالأزمة الأوكرانية التي حدثت هذا العام شكلت انعطافا كبيرا في السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، ففي مجال السياسة العالمية عاد للعالم قطبه الثاني، والعالم يشهد نهاية تفرد الولايات المتحدة الامريكية كقوة عالمية وحيدة، أي ان العالم يعود الى ما قبل 26 كانون الاول1991 وانهيار الاتحاد السوفييتي.
ومثلما هو معروف فإن العالم سابقا شهد هيمنة للباون الإسترليني حتى مجيء الحرب العالمية الثانية التي شهد بعدها ولادة عملة جديدة وافول عملة أخرى وولادة نظام اقتصادي عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، وبالتحديد بدا ذلك التغير العالمي في مجال الاقتصاد منذ اتفاقية (برتون وودز) عام 1944 التي فرضت على العالم الدولار كعملة مرجعية أولى جرى على اساسها تسعير السلع، ولاسيما برميل النفط، حيث انبثقت من بريتون وودز أيضا مؤسسات دولية عدة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة وبالتالي استطاعت أمريكا من خلالها ان تكون مهيمنة على اقتصاديات العالم.
عملات جديدة
الوضع الآن مشابه وبشكل كبير لظروف الحرب العالمية الثانية من بزوغ نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد سيعيد ترتيب الأنظمة والقوانين سياسيا واقتصاديا، ومنها ما ينبئ بولادة عملة او عملات جديدة ستكون مؤثرة في التجارة والاقتصاد العالميين، ويرافق ذلك أيضا اما افول عصر ازدهار الدولار الأمريكي او ضعفه في اقل الأحوال، ولهذا الأمر دلائل عدة تدعم ذلك منها ان الصين انشأت بورصة للتعامل باليوان الصيني بدل الدولار في المعاملات البترولية واسمتها (بورصة شنغهاي) للبترويوان، وكذلك انشأت البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية وهو مايقابل البنك الدولي وكذلك صندوق النقد الدولي والذي يعمل على انشاء حلف اقتصادي كبير تحت عنوان الطريق والحزام (طريق الحرير). وقد تسابق العديد من دول العالم للانضمام الى ذلك البنك وعلى راسها المملكة المتحدة، والكويت وقطر وعمان عربيا، ومما يؤسف له ان العراق لم ينضم الى الان، بل لم يفكر في الانضمام اليه. ولاسيما أننا نعيش مخاضات سياسية واقتصادية متسارعة تؤكد على ولادة نظام اقتصادي عالمي جديد مثل الخطوات التي قامت بها روسيا من شروط التعامل بالروبل في عملية بيع وشراء النفط والغاز الروسي، وكذلك تصريح الرئيس الروسي بعزم دول (البريكس) إنشاء عملة موحدة لهم، إذ قدمت ايران وفنزويلا قبل أسابيع طلبا للانضمام الى ذلك التجمع، كما لا بد من ذكر الحلف القديم لروسيا والصين وحلفائهم من كوريا الشمالية وايران وهو (مؤتمر شنغهاي)، الذي تجاوز ان يكون مجرد حلف سياسي الى حلف قد يصل الى العسكري والاقتصادي.
نظام جديد
الكثير من الدول، ولاسيما الدول المجاورة لنا، ومنها السعودية ومصر وتركيا وايران هي جزء من ذلك الحلف، فقد فهموا حالة التغير والمخاض الذي يمر به العالم لولادة هذا النظام الجديد، فنرى أن تلك الدول سعت بصورة جدية اما الى الالتحاق بالمعسكر الجديد او الوقوف على مسافة واحدة بين المعسكرين او النظامين القديم والجديد، إذ لاحظنا انها قامت بخطوات مهمة منها انها رفضت الطلب الأمريكي بزيادة انتاج النفط، وعللت ذلك بسببين هما ان طاقتها الإنتاجية لا تسمح لها بزيادة الإنتاج اكثر من 13 مليون برميل يوميا، والسبب الاخر انها ملتزمة بمقررات أوبك بلاس والحصص التي تقررها، وللعلم فإن منظمة أوبك بلاس تؤكد ان القرار يكون باشراك روسيا الغريم الكبير لأمريكا بعد الصين في العالم، والخطوة الثانية التي أقدمت عليها السعودية وهي التفاوض مع الصين (للعلم ان الدولة الأولى في توريد النفط للصين هي السعودية ويحتل العراق المرتبة الثالثة او الرابعة) في بيع النفط باليوان الصيني بدل الدولار الأمريكي، بل ذهبت بأكثر من ذلك إذ انها الان في صدد انشاء مصنع للصواريخ البالستية بمساعدة الصين، وبالتالي فانها لن تشتري الصواريخ مستقبلا من الولايات المتحدة .
تأثير الازمة الاوكرانية
وبالعودة إلى اصل موضوعنا المعنى بأساسه العراق، الذي نعلم بلا سر انه يعتمد في تمويل موازنته الاتحادية على الإيرادات النفطية بنسبة تصل لنحو 95 %، والذي رفعت الأزمة الاوكرانية سعر برميل النفط الى حدود 120 دولارا، والذي وصلت حجم صادراته النفطية لشهر حزيران الماضي بحدود 101 مليون و191 ألفا و236 برميلاً، فيما بلغ حجم الواردات 11,505 مليار دولار، وهو أعلى مورد مالي يحصل في تاريخ العراق لشهر واحد، حيث ان معدل سعر البرميل الواحد بلغ أكثر من 113,70 دولار،
وهو الأمر الذي جعل العراق يشهد فائضا ماليا مريحا، حتى ان البعض يعتقد ان يصل الفائض الى 25 مليار دولار في نهاية هذا العام، لكن رغم ذلك فان خطوات الحكومة في هذه الازمة كانت غير موفقة في بعض الأحيان ومنها فيما يتعلق باستيعاب المتغيرات العالمية واتخاذ خطوات مشابهه لخطوات السعودية للتقرب من الصين والمعسكر الشرقي على اقل تقدير للمحافظة على المركز الذي يحتله العراق في توريد النفط الخام للصين، إذ شغل العراق المركز الثالث في توريد النفط خلال شهر حزيران الماضي، وللعلم فإن السعودية هي المورد الأول للنفط الى الصين.
خطوات اقتصادية
اما في ما يتعلق بالخطوات التي قامت بها الحكومة العراقية تجاه هذا المخاض الاقتصادي فهي :-
1 – رفع احتياطات العراق من العملة الصعبة من الدولار، إذ وصل المبلغ الى 72 مليار دولار، فيما كان من المفروض رفع احتياطي العراق من العملات الأجنبية الأخرى كالروبل واليوان الصيني بدل الدولار الأمريكي.
2 – زيادة شراء السندات الامريكية، إذ ان حيازة العراق من سندات الخزانة الامريكية لشهر اذار من عام 2022 ارتفعت بمقدار مليارين و117 مليون دولار بنسبة 8.79% لتصل الى 26.203 مليار دولار بعد ان كانت 24.086 مليار دولار في شهر شباط الماضي.
وهو الأمر الذي يدفعنا إلى تفسير وحيد لشراء السندات الامريكية من فائض الأموال العراقية هو (مساعدة الاقتصاد الأمريكي على حساب الاقتصاد العراقي)!
اذ يمكننا بالمقابل ان نترجم تلك الأموال الى قروض داخلية ميسرة وبالتالي نكون قد اكتسبنا:
أ- حركنا عجلة الاقتصاد الداخلي عن طريق القروض الاستثمارية.
ب – اكتسبنا فوائد مالية من نسب فوائد تلك القروض.
ج – نكون قد دعمنا حركة القطاع الخاص وهو شريك مهم جدا في الصناعة والاقتصاد بصورة عامة.
د – شراء الذهب، فالعراق اشترى ذهبا ليصبح مجموع ما يمتلكه العراق (130.39) طنا في المرتبة الثلاثين عالمياً والمرتبة الرابعة عربياً، رغم انه بالإمكان استغلالها في أمور هي افضل بكثير من ذلك.
إذ كان المفروض من الحكومة الحالية تحقيق الموازنة في التعاملات الاقتصادية بين الأقطاب الكبرى للعالم وكذلك الاستفادة من الفائض في :-
(1) – سد الدين العام الداخلي والخارجي،
(2) – انشاء صندوق سيادي يقوم باقراض المشاريع الاستثمارية منها المشاريع النفطية على سبيل المثال.
وبمحصلة ماذكر.. هي أفكار نأمل من خلالها الارتقاء بواقعنا الاقتصادي عبر استغلال وفرة مالية قد لاتتكرر دائما.