آية منصور – تصوير:حسين طالب /
أحب مدينتي أزقتها، وهذا الحب غالباً تبادلني إياه المدينة نفسها، التي تبهرني بالجمال الذي تحمله، قصص مدهشة تناديني، وأشخاص يمنحونني الحب، ولم أكن اتوقع أنَّي سأجد بيتاً يسحبني لمعرفة تفاصيله وقصته، نعم بيت، قادم من الخيال وحكايات الجدات الشعبية، ارتأت صاحبته أن يكون بصمة مميزة، يقع في أحد أحياء ضاحية الكاظمية البغدادية.
يطلب منك الباب أن تقف وتلتقط قربه صورة، فالبيت يشبه في عمرانه وتصميمه البغدادي أغلب المنازل التراثية القديمة، التي لم يتبقَّ منها سوى عدداً محدوداً يصارع الزمن، لكن سيدته فضَّلت أن يصبح أيقونة شعبية ممتعة، وذلك بوضع رسومات بغدادية مميزة على واجهته، تمثَّل جسد سيدة عراقية جميلة بعباءة تقليدية وثوب أحمر، تقف على الباب، قربها نخلة عراقية رائعة، ومجموعة من الشبابيك والفوانيس، وأجواء عراقية خالصة.
الكرم الممتع
هذه السيدة التي استقبلت اندهاشي بجدران واجهة بيتها، بعد أن طرقت بابه لأعرف سبب وجود هذه اللوحة، سحبتني من يدي وأدخلتني إلى منزلها البسيط الثري بدفء روحه ومن فيه، حيث تسكن مع أبنائها وزوجاتهم.
تحب أم علي منزلها كثيراً، لأنَّه يذكّرها بوالديها وزوجها، الذين رحلوا، وهذه الأمتار الصغيرة هي كل ما تملك مع أولادها، حيث بدأت الفكرة عندما طلبت من أحد العمال أن يصلح رطوبة منزلها ويصبغ جدرانه التي تهرأت، تخبرنا وهي تدوف ابتسامتها بحلاوة التمر التي كانت تصنعها:
– لقد استطاع أحد العمال معاونتي وترميم منزلي من الرطوبة وطلاءه ضمن أعمال مساعدة دأب على تقديمها للآخرين، وكان المنزل متهالكاً بسبب القدم، فتمكّن في وقت قصير من إعادة غرف المنزل، نظيفة وبيضاء.
التراث الذي نبحث عنه
تخبرنا أم علي وهي تحضّر الفطور وتطلب منا البقاء لتناوله معهم وقد تحلّق حولها الاحفاد، عن ولعها بالتراث العراقي والتفاصيل الشعبية، لأنها جزء من موروث ولدت وترعرت فيه، وتحديداً في حي النعش خان داخل مدينة الكاظمية، حيث التفاصيل المحلية ورائحة البخور وزرقة السبع عيون، والعباءة العراقية التي تجرّ خلفها ضحكات الصغار وأمنياتهم، وتضيف:
– منذ صغري ذهبتُ إلى المتحف البغدادي مع عائلتي، ولربما هو الشيء الوحيد الذي شاهدته في بغداد معهم، لذا بقي راسخاً في حياتي وذاكرتي، وأيقظ عشقاً للتراث في روحي، حتى أنَّي احتفظتُ ببعض أشياء ورثتها عن أمي، كالفانوس النفطي، السجاد العراقي والخوص.
كان أهل الحي يسمّون منزل والديها “بيت الجدة” وذلك لأن والدتها كانت شديدة الكرم مع الجميع، وتحمل من اللطف الذي يجعلها توزع أحياناً الغداء والعشاء بين الجائعين والمارين قرب عتبة منزلها، حيث كانت تجلس دائماً:
– حينما أخبرني العامل، أنَّه يمكنه مساعدتي في ترميم واجهة المنزل، وأكد لي أنَّ الرسام الذي سيرسم الواجهة، سبق أن شارك برسوماته في ساحة التحرير، شعرت بفرح غامر، وكان شديد اللطف معي.
أثر الفراشة
حضر الرسام علي خليفة، وهو أحد متطوعي فريق “أثر الفراشة” التطوعي، الذي يُعنى بتجميل شوارع المدينة وأزقتها، حيث أخذ الفنان علي على عاتقه نشر الفرحة على وجه أم علي وعائلتها برسوماته المبهجة، تخبرنا أم علي:
– لم أطق الانتظار حتى أكمل رسم الجدة فوق باب البيت، لقد رسم والدتي، جدة الحي والجميع، كان كل ساعة تقريباً، يناديني لمشاهدة خطوات عمله ورسوماته، لقد كان مذهلاً.
تمكّن الرسام علي خليفة من رسم هذه الواجهة الممتعة بيوم واحد فقط، ليضيف إلى واجهة المنزل والحي لمسة من الحب والفرح، وليمنح أم علي رسمة تخيلية تذكُّرها بوالدتها وتشعرها بامتنان دائم، إذ تحدثنا بسعادة وطيبة وابتسامة ساحرة على محياها:
– لقد أعاد إليّ طيف أمي بهذه الرسمة التي تشعرني كأنَّها تحرس معي منزلي، أنا ممتنة للغاية، وسعيدة لأن أبناء الحي أحبوا هذا العمل، وجميعهم يتمنّون فعل ذلك لمنازلهم، تخيلوا، سيكون الأمر – لو تحقّق – نزهة في الألوان.
الحنين إلى التراث
وفي حديث لنا مع علي خليفة، الرسام الذي أشعل برسمته هذه حنين العراقيين إلى تراثهم الشعبي، فأكد لنا حماسه وسعادته بما أنجزه، وأخبرنا أنَّه قبل يوم من رسم هذه الجدارية، كان يرسم عند أحد المنازل القريبة، وعند انتهاء العمل، طلب منه أحد العمال إضافة لمساته على منزل أم علي، فيكمل لنا قائلا:
– أحضر لنا العامل الأصباغ، وأنا تكفّلت بإحضار فريق يساعدني في إتمام الجدارية، رغم أنَّ بعضهم تساءلوا: لم قد أرسم رسمة تحتاج جهداً هائلاً في مكان منعزل وغير مرئي مثل هذا البيت؟ لكني أردت إسعاد أم علي وكنت أحبذ فكرة أنَّ الزقاق بحاجة لمن يهتم به وهو أولى وأهم من غيره لأنَّه سيضيف بهجة لأهالي الحي.
كلّ هذا العمل تطوعي
تمكّن التشكيلي خليفة من إتمام رسم اللوحة في يوم واحد، وقد أبهرته قدرة أم علي على الكرم والترحاب، مؤكداً:
– لم تفرض عليّ ما يجب أن أفعله أو أين أضع السيدة عند واجهة منزلها، كانت رغم عدم معرفتها بنا، واثقة تماماً بما نفعل، رحبت بنا، وغمرتها الفرحة بوجود سيدة العباءة على واجهة دارها.
ويرى الرسام علي أنّ ما فعله في هذا الزقاق هو لربما من أهم أعماله التطوعية التي شارك بها على مدى سنين في مختلف الأزقة والمدن، لأنَّه لم يكن سوى منفذ ومتنفس لعائلة تعيش بين أزقة الماضي، يقول:
– انتمي لفريق “أثر الفراشة” التطوعي، المعني برسم الواجهات والأزقة والأرصفة، نحن نعمل منذ أكثر من ثلاث سنوات عملاً تطوعياً مستمراً للرسم في كل مكان وزمان، ولسنا مسجلين منظمةً رسمية، ولا نتلقى دعما من جهة، نعمل بحب، وهذا كاف.