تغيير سعر صرف الدولار.. ضرورة أم ترف؟

نبيل المرسومي /

تتردد في الأوساط السياسية والاقتصادية دعوات الى إعادة سعر صرف الدينار إلى ما كان عليه سابقاً، وهو أمر يؤدي الى زعزعة الاستقرار المالي في العراق، والى توجه أصحاب رؤوس المال الى المضاربات بالعملة الأجنبية وإرباك السوق العراقية، وبالتالي فقدان ثقة المؤسسات المالية الدولية بالسلطتين النقدية والمالية في العراق، والى التأثير سلبياً على البيئة الاستثمارية في البلاد.
بالمقابل، فإن رفع السعر أدى الى تداعيات كبيرة تحملت وزرها -وما زالت- الشرائح الفقيرة.. فهل أن تغيير سعر صرف الدولار هو ضرورة اقتصادية أم بطر؟
ينبغي التذكير بأن تغيير سعر صرف الدولار جاء في إطار خطة إصلاح مالية حملت اسم “الورقة البيضاء”، احتوت مقدمات واضحة للإجراءات المطروحة المزمع تنفيذها اليوم، بدعوى الإصلاح الاقتصادي وفقاً للمنطق الليبرالي، ومن تلك المقدمات التركيز على مخاطر الدولار الرخيص وضرورات تخفيض قيمة الدينار لتعزيز التنافسية واستدامة الموازنة، كما ركزت الحكومة على أن سياسات البنك المركزي العراقي، طوال السنوات السابقة، لم تخدم موقف الميزان التجاري العراقي مقابل تعزيزها لموازين مدفوعات دول الجوار، التي أصبحت مصدرة صافية للبلد، مستفيدة من تراجع الناتج المحلي العراقي غير النفطي وثغرات قوانين الجمارك والضرائب وضعف سيادة القانون.
لذلك قررت الحكومة العراقية نهاية عام 2020 رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار من 1118 الى 1450 ديناراً وبنسبة 23% . غير أن الحكومة لم تخفض سعر الدينار بمعزل عن البرلمان، بل بالتشاور معه، وأكثر من ذلك فإن اللجنة المالية البرلمانية السابقة قد قدمت الى الحكومة ورقة إصلاحية تضمنت في ثناياها الدعوة الى تخفيض سعر صرف الدينار.
مبررات رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار
1- انهيار أسعار النفط عام 2020 نتيجة لجائحة كورونا وتدني عائدات النفط العراقية التي انخفضت بمقدار 35 مليار دولار قياساً بعام 2019. لذلك استهدف قرار رفع سعر صرف الدولار أساساً مساعدة الحكومة العراقية على تسديد الرواتب، بعد أن واجهت مشكلة حقيقية في هذا الجانب، إذ ارتفعت الرواتب من 43 ترليون دينار عام 2019 الى 53 ترليون دينار عام 2021، والتي تصل الى 70 ترليوناً بعد إضافة رواتب المتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية. وقد أدى تخفيض سعر صرف الدينار فعلاً الى زيادة الإيرادات الحكومية مقومة بالدينار العراقي بنحو 17 ترليون دينار عام 2021.
2- تشجيع المنتج المحلي: إن تخفيض قيمة العملة الوطنية يؤدي إلى جعل أسعار السلع المستوردة أغلى بالنسبة للمقيمين، مما يُفترض أنه سيحد من شراء السلع القادمة من الخارج ويشجع الإقبال على المنتجات الوطنية. وإذا حصل ذلك، فنتيجته الطبيعية هي تراجع حجم الواردات ونقص فاتورتها بالعملات الأجنبية. وبالمقابل، تصبح أسعار السلع المصنعة محلياً أرخص بالنسبة للأجانب، ما يُفترض أنه سيعزز القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية ويرفع بالتالي من حجم الصادرات إلى الخارج. وإذا تراجعت الواردات وتضاعفت الصادرات بما يكفي، فإن ذلك يعيد الميزان التجاري إلى حالة التوازن.
3- الحد من مبيعات العملة الأجنبية من خلال نافذة العملة في البنك المركزي العراقي، ما يؤدي الى تقليص الاستيرادات ومحاولة زيادة رصيد الدولة من الاحتياطيات الأجنبية، إذ انخفضت المبيعات من 44 مليار دولار عام 2020 الى 35.835 مليار دولار عام 2021.
4- الحد من تهريب الدولار الرخيص الى الخارج.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية لرفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار
1-إن القدرة التنافسية للمنتجات الصناعية العراقية لا تتوقف على أسعارها فقط، إنما على العديد من العوامل الأخرى المصاحبة لعامل السعر، التي منها :
أ- أن جهاز الإنتاج العراقي، في جانبه الصناعي، لا يتمتع بأدنى مرونة، فهو جهاز قد مات أغلبه واندثر بفعل فاعل، أما ما تبقى منه فهو قديم ومتهالك تقنياً، ولا أظن أن المستثمر سيخاطر بالاستثمار في مجال التصنيع في ظل الظروف الأمنية والسياسية والإدارية المعروفة وظروف البنى التحتية المدمرة.
ب- تتوقف القدرة التنافسية للمنتجات العراقية أيضاً على نسبة مساهمة المواد الأولية الأجنبية المستوردة في عملية الإنتاج العراقية فترتفع أيضا بارتفاعها، لأن المنتج العراقي لا يستطيع الاعتماد على المدخلات العراقية في إنتاجه، بسبب عدم توفرها من ناحية وعدم جودتها من ناحية أخرى.
ج- أما العامل الحاسم هنا فهو موقف الدول المصدرة للعراق، ولاسيما موقف حكومات دول الجوار من مستوى الدعم الذي تقدمه وستقدمه لمنتجاتها الموجهة للتصدير الى العراق، علماً أن بعض دول الجوار مستعدة للتعامل مع العراق بالدينار العراقي من أجل المحافظة على حصتها في السوق العراقية والقضاء على أية فرصة لنهوض صناعة محلية.
إن دول الجوار سوف لن تترك السوق العراقية بسهولة، فقد أقامت فيها -ومنذ سنوات- مشروعات إنتاجية مهمة تختص بالإنتاج الموجه الى العراق، ثم أن لهذه الدول القدرة على تعويض خسارة منتجيها لمدة طويلة من الزمن، في سبيل إغراق أسواقنا بالمنتجات الرخيصة لتعطيل الإنتاج العراقي الذي سوف لن يجد له ناصراً حكومياً.
2-ارتفاع الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي العراقي الى نحو 64 ملياراً لم يكن بسبب رفع سعر صرف الدولار فقط، وانما بسبب التأثير الإيجابي لارتفاع العوائد النفطية بسبب ارتفاع اسعار النفط.
3- ان رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار يتعارض مع السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي التي تعتمد سعر صرف مثبتاً اسمياً لاحتواء توقعات الجمهور التضخمية.
4- إن الطبقة الفقيرة عادةً ما تكون أكثر عرضة للآثار السلبية للصدمات الخارجية مقارنةً بالطبقة الغنية، فالأزمات المالية تؤثر على دخل الفقراء من خلال ارتفاع معدلات التضخم، فعادةً ما يحتفظ الفقراء بأموالهم في صورة نقدية، وبالتالي فإن اتباع سياسة تخفيض قيمة العملة سيؤدي إلى انخفاض القيمة الشرائية لما يمتلكون من نقود، بالإضافة إلى انخفاض الأجور الحقيقية لهم، الأمر الذي يزيد من وضع الفقراء سوءاً.
وعلى وفق تقرير وزارة التخطيط، فإن مستوى التضخم السنوي في تشرين الأول 2021 بلغ 7.5% بالمقارنة مع تشرين الأول 2020 ، فيما يرتفع الى 14.5% في مجموعة الأسماك و منتجات الألبان 12% والزيوت والدهون 8.5% والفواكه 7.3% والصحة 13.6% والنقل 13% . وتبدو هذه الأرقام ضئيلة قياسا إلى ما تشهده السوق العراقية من ارتفاع كبير في الأسعار وخاصة في المواد الغذائية يفوق بكثير أرقام وزارة التخطيط .
تداعيات العودة إلى سعر الصرف القديم
ثمة مطالبات لعدد ليس بالقليل من أعضاء البرلمان العراقي تستهدف إعادة سعر صرف الدينار الى ما كان عليه سابقاً، وهو ما يثير مجموعة من الملاحظات منها :
1- إن تخفيض سعر صرف الدينار العراقي لم يكن قراراً فنياً محضاً اتخذته السلطتان النقدية والمالية لوحدهما وإنما هو قرار فني – سياسي حظي بموافقة الكتل السياسية واللجنة المالية البرلمانية، التي كانت لها هي الأخرى، ورقة إصلاحية فيها ٣٣ إجراءً من بينها التوصية بتخفيض سعر صرف الدينار.
2- إن تغيير سعر الصرف سيؤدي الى زعزعة الاستقرار المالي في العراق والى المضاربات بالعملة الأجنبية وإرباك السوق العراقية، والى فقدان ثقة المؤسسات المالية الدولية بالسلطتين النقدية والمالية في العراق والى التأثير سلبياً على البيئة الاستثمارية في العراق.
3- إن اعادة سعر صرف الدينار الى ما كان عليه سابقا يتطلب اعتماد سعر٨٠ دولاراً للبرميل في موازنة ٢٠٢٢ وصادرات ٣.٣ مليون برميل يوميا، لأن تغطية رواتب الموظفين والمتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية تتطلب، بعد إعادة سعر صرف الدينار، نحو ٦٠ مليار دولار سنوياً.
4- إن ربط سعر صرف الدينار في بلد يعتمد نظام السعر الثابت بمتغير خارجي، وهو سعر برميل النفط الخام الذي يحدد في السوق العالمية، الذي يتميز بالتقلب الشديد، يعرض سعر صرف الدينار لمخاطر شديدة، ولاسيما في حالة الانخفاض الكبير في أسعاره، علماً بأن إيرادات النفط العراقية تشكل اكثر من 90% من الإيرادات العامة.
5- إن إعادة سعر صرف الدينار الى ما كان عليه سابقا لن يؤدي الى إعادة أسعار السلع الى ما كانت عليه، لان الأسعار تتمتع بمرونة عالية عند الارتفاع، لكنها لزجة او ذات مرونة ضعيفة عند الانخفاض، ولاسيما أن الأسعار لا تتأثر حاليا بانخفاض سعر صرف الدينار وحده، وانما بمتغيرات أخرى أيضا منها الارتفاع العالمي في أسعار السلع المستوردة ، والضرر الذي لحق بسلسلة التوريد نتيجة لجائحة كورونا التي أدت الى ارتفاع كلف الشحن والنقل.
6- إن التغيير المفاجئ والكبير في سعر صرف العملة الوطنية خلال مدة قصيرة من شأنه أن يؤثر على هيكل الأسعار المحلية والتجارتين الداخلية والخارجية والإنتاج والاستهلاك والاستثمار والاحتياطي النقدي الأجنبي، ما سيؤدي الى التأثير الشديد على استقرار الاقتصاد الكلي في العراق.
7- من المهم اليوم مواجهة الآثار الاجتماعية السلبية التي نجمت عن رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار من خلال مثلاً تعزيز مفردات البطاقة التموينية وإعفاء السلع الغذائية ومستلزمات إنتاجها المستوردة من الرسوم الجمركية وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية وزيادة رواتب المشمولين بها.
8- إن الارتفاع الكبير في أسعار النفط الحالية الذي سيؤدي الى ارتفاع كبير في العائدات النفطية العراقية يهيئ الفرصة لاستثمار هذه العائدات في تنويع بنية الاقتصاد العراقي من خلال انشاء العديد من المشاريع الاستثمارية التي تستطيع أن تعزز القاعدة المادية وأن تنوع الاقتصاد العراقي وتوفير فرص عمل للشباب، فضلاً عن إمكانية استثمار جزء من هذه العائدات في تأسيس صندوق سيادي يتم من خلاله ادخار قسم من العائدات النفطية لكي تكون مصداً للأزمات المقبلة أولا، وأن نحافظ من خلالها على حصة الأجيال القادمة من الثروة النفطية ثانياً.

أستاذ في جامعة البصرة