آية منصور – يوسف مهدي /
اللون الذهبي والدرب الطويل
لم تختر رانيا، حسبما تؤكد لي وهي تضحك، وكأنها تسرد لنا قصة درامية تُختم بنهاية مبهجة، عن طريق أحلامها، الذي خطه الزمن بأرصفة لم تكن في حسبانها يوماً، لكنها بمرور الوقت أصبحت مولعة به، بل ملازمة له، تعمل على تطويره وتجديده، إذ وجدت نفسها في مدرسة الموسيقى والباليه. رغم إمكانية عائلتها البسيطة، واضطرارهم للإنفاق، إلا أنها كانت سعيدة جداً بفكرة رقص الباليه، وتخيلها لثياب الراقصات على خشبة المسرح، إلا أن نتائج اختبارات الموسيقى والآلات جاءت مختلفة، ليتم اختيار آلة الكورنو/ الفرنج هورن لرانيا التي لم تفهم وقتها شيئاً سوى لون الآلة الذهبي وانبهارها به.
– لم أعرف وقتها حتى اسم الآلة، فتح أستاذي الباب وإذا بشيء ضخم، ذهبي، يتلألأ داخل الغرفة، بقيت وقتاً طويلاً أراقب هذا الشكل الذي لم أره سوى في أفلام الكارتون، وكان بالنسبة لي الحلم الذي وجدت من أجله بسبب شكله وحجمه ولونه.
إما الكورنو أو الإضراب عن الطعام!
وطبعاً، كما توضح لنا رانيا، فإن والديها كانا ينتظران، وكأية عائلة، بزوغ ابنتهما مع آلة مرهفة مثل البيانو، أو الكمان، أو غيرهما، لكنهما فوجئا بلفظها الصعب لاسم هذه الآلة الصعبة للغاية، وغير “البناتية” حسب قولهما.
– رفضا في بادئ الأمر تدربي عليها، ورفضت رفضهما، وامتنعت حتى عن تناول الطعام بعد معرفتي بذهابهما إلى المدرسة من أجل محاولات نقلي إلى آلة أخرى، ثم رضخا في النهاية، لشغفي الجديد، وسبب نجاحي في الحياة.
تقول رانيا عبارتها هذه وتضحك بصوت طفولي بريء للغاية، لتخبرنا بعدها عن فصل جديد من حكايتها، هو دخولها الأوركسترا عندما كانت في الصف الرابع الابتدائي، هذا الأمر نادر الحدوث، دخول الموسيقيين بهذا العمر، لكن جدارتها وموهبتها، مكنتاها من فعل ذلك.
– اكتسبت مهارة العزف والتعلم عن طريق والدي الراحل، الذي كان موسيقياً “بالفطرة”، إذ دربني قبل دخولي المدرسة على عشرات المقاطع الموسيقية لأهم الفرق والعازفين.
العزف مع الموت!
في عام 2007، ورغم حدة الأيام وقسوتها، بسبب الأحداث التي كانت تنهش البلاد، إلا أن رانيا أكملت دراستها، ودأبت على حمل آلتها متنقلة من باص إلى آخر، لتنضم إلى الأوركسترا العامة، متدربة لا طالبة، وبدأت التدريبات التي كانت تعدها الأكثر أهمية من الحفل نفسه، لشدة التزامها وانضباطها في مواعيدها بين كبار العازفين والأساتذة.
– لم تكن الحفلة الأولى بالنسبة لي مخيفة، لأني تدربت كثيراً عليها أوقاتاً طويلة، وقدمناها بعنوان “أوركسترا الشباب” في أربيل عام 2007، فكانت بالنسبة لي بمنزلة لعبة أتقنت أحجياتها بصورة كبيرة، وممتعة.
تدريب متواصل على الآلة الضخمة
تعلمت رانيا على هذه الآلة الضخمة من أساتذتها حتى الصف الثاني المتوسط، وبعد انضمامها للأوركسترا كذلك، لكنها لم تعتمد على هذا وحسب، بل طورت حرفتها الذهبية بيدها، ببقائها ساعات طويلة في التمرن، وقراءة الأوزان الموسيقية، وتمكنها من أخذ دروس مع الأوركسترا في ألمانيا، وبريطانيا واسكتلندا.
– السنة التي أشعر أني كنت فيها وفيّة لآلتي كانت عام 2018، وذلك بأخذي “ماستر كلاس” عند عازف الهورن الألماني يورغ بركنر، وهو العازف الأول في ميونخ للهورن، فضلاً عن درس مع أستاذ أميركي في إسبانيا، والأفضل والأهم كان عند المدرس العازف رادك بابوراك، وهو أفضل عازف في العالم، أي أن دراستي كانت متنوعة، من مختلف أنحاء العالم، وشاملة، ناهيك عن التعلم عن طريق اليوتيوب.
عازفة التربة والزراعة
ولو تحدثنا عن دراسة رانيا فسننتقل إلى سيدة أخرى، وبميول مغايرة، تختلف اختلافاً جذرياً عن العازفة والفنانة، إذ بعد أن كانت الناجحة الوحيدة بين طلاب صفها، وفي السنوات التي تلتها، كانت رانيا تمتحن الدور الثاني، وفي الوقت ذاته تتدرب على المقطوعات الموسيقة، إذ تسترجع إحدى طرائف حياتها بضحكة قائلة: – خضتُ امتحاناً ذات مرة، ثم خرجت لشراء ثياب الحفل، وتوجهت إلى أربيل مباشرة لتقديم حفل مع الأوركسترا في ألمانيا، هكذا هي حياتي، فوضى أحبها، فوضى تضيف لي معنى الحياة.
رانيا التي تحب العلوم والهندسة النووية، كما تؤكد لي، شعرت بالذنب والحزن عند قبولها في كلية الزراعة، لأنها كانت تود بشدة الدخول في قسم آخر.
– بعد تفكير طويل، اقتنعت بكلية الزراعة ولم يكن يخطر ببالي دخول كلية أهلية، أردت أن تكون شهادتي من جامعة بغداد، ثم بدأت علاقتي تتطور وتتعمق بكلية الزراعة التي أصبحت عالماً ممتعاً بالنسبة لي.
رسوب يؤدي إلى الماجستير!
ورغم حبها الشديد لكليتها، إلا أن التدريبات كذلك كانت أحد المعوقات التي تمنعها من النجاح، تسير بين الأزقة والشوارع، تستقل “باصات الطابقين” مع زميلاتها وتتناول الآيس كريم، وتدخل “الدور الثالث”.
– نظرة الأساتذة لمجاميع الدور الثالث لم تعجبني، فأصبح النجاح بتفوق تحدياً بيني وبين نفسي، وهذا ما كان، إذ وجدت أن الزراعة لا علاقة لها بما ندرس وأن أغلب مناهجنا كانت كما أطمح وأعشق.
رانيا التي حاولت تقسيم وقتها بين القراءة صباحاً وفي الطريق إلى الجامعة، ثم التنقل إلى التدريبات، أتمت رسالة الماجستير مع كل هذه الضغوط، وبامتياز.
– كان بحث الماجستير عن طرق تحضير السيللوز البكيتيري، الذي يحتاج إلى معاملات قاسية، إذ قمت بتنمية البكتيريا على عصير البطيخ، لإنتاج السيللوز البكتيري، وقمنا بإدخاله لانتاج الحلوى منه وحتى الهمبرغر.
الأم، والعازفة، والباحثة.
الصادم والمدهش في قصة رانيا أن إتمام رسالة الماجستير الخاصة بها كان أثناء حملها الأخير، وانتقالهم إلى مكان آخر، تقول وهي تضحك ضحكتها البريئة والعفوية:
– تخيّلي .. كنت أكتب، وأشعر بتقلصات الولادة، أكتب قليلاً وأتوجع قليلاً مرة أخرى، فيما أعاني في الوقت عينه من عطل حاسبتي، أي أنني أنجبت وأتممت رسالتي، وكأنه الإنجاب لتؤام من قلبي.
تطمح رانيا الجميلة اليوم إلى إكمال دراستها للموسيقى خارج العراق، وإكمال رحلتها مع العلم والزراعة، وبالطبع، بتربية صغيرتها التي تريد لها مستقبلاً مشرقاً.