ميناء الفاو الكبير.. هل ضاعت الحقيقة بين فصول الجدل؟

إيفان الخفاجي /

يعتقد أولئك العائمون على ضفاف ميناء الفاو الكبير أنهم على حق. لا فرق بين مطبل للشركات الصينية أو مهلل لإنجازات الشركة الكورية. ووسط الغموض الذي يلف الموقف الرسمي من الانحياز الى إحدى الجهتين، لتنفيذ إنشاء الميناء، تتقاذف جهات رسمية وأخرى شعبية مرتبطة بالأحزاب التهم الجاهزة بالعمالة للأجنبي وعقد صفقات مع دول مجاورة.
مرة يكون هذا الأجنبي دولة الكويت المجاورة للعراق والتي قيل إنها تريد عرقلة بناء ميناء الفاو لمصلحة ميناء مبارك الذي تعمل عليه منذ سنوات ليكون منفذاً بحرياً وحيداً للتجارة العراقية. وقيل أيضاً إن الجارة الأخرى، إيران، تسعى الى عرقلة بناء الميناء العراقي لمصلحة ميناء بندر عباس الداخل على خط طريق الحرير الصيني بقوة، بل وصل الأمر الى اتهام بعض المسؤولين العراقيين بتسلم رشا من مصر مقابل أن يعطلوا بناء ميناء الفاو لأنه سيؤثر على حجم حركة الملاحة في قناة السويس، وقد يضع قناتي السويس، القديمة والجديدة، في متحف التاريخ البحري ويخرجهما من الخدمة نهائياً.
فأين الحقيقة وسط هذه الفوضى وذاك الغموض؟
سيرة ذاتية للميناء
ميناء الفاو الكبير هو ميناء عراقي في شبه جزيرة الفاو جنوبي محافظة البصرة. تبلغ تكلفة إنشائه نحو 4.6 مليار يورو، وتقدر طاقة الميناء المقدرة بـ 99 مليون طن سنوياً ليكون واحداً من أكبر الموانئ المطلة على الخليج، والعاشر على مستوى العالم. ووضع حجر الأساس لهذا المشروع يوم 5 نيسان 2010. وشهد المشروع بعض التلكؤ عقب “انتحار” المدير الفني لشركة دايو الكورية الجنوبية المنفذة لمشروع ميناء الفاو الكبير، لأسباب غامضة، حين فوجئ المتابعون بإعلان محافظ البصرة أسعد العيداني وفاة جول هو بارك مدير الشركة المشرفة على إنشاء الميناء، مشيراً إلى أن النتائج الأولية تفيد بانتحاره.
ويُنتظَر أن يكون ميناء الفاو الكبير الرافد الاقتصادي الأكبر للعراق والمحور الستراتيجي للنهضة الاقتصادية، إذ يفترض أن يربط بين قارتي آسيا وأوروبا لنقل البضائع، ومن المفترض أيضاً أن يغير خريطة النقل البحرية حيث يشق طريقه في البحر بعيداً عن الموانئ الكويتية والإيرانية، وينتظر أن تتراوح طاقته الإنتاجية الابتدائية بين 20 الى 45 مليون طن سنويا. ويجعل الميناء حال اكتماله، العراق، المحطة الرئيسة في مشروع الطريق الدولي البري والبحري، طريق الحرير الرابط بين قارتي آسيا وأوروبا، إذ سيكون الميناء حلقة وصل بين دول الخليج العربي التي تعد مستهلكاً للبضائع الأجنبية، كما هو حلقة وصل مع تركيا التي تعد مستهلكاً كبيراً للنفط، وفي الوقت نفسه المصدر الرئيس للبضائع، لذا من المتوقع أن تصبح منطقة الفاو حلقة وصل تربط عدداً من الأطراف بعضها مع بعض.
ووفقا لوزير النقل ناصر الشبلي، فإن كاسر الأمواج الذي يتميز به ميناء الفاو، وتحديداً الغربي منه، يعد الأطول في العالم ودخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، مشيراً إلى أن الشركة الكورية هي التي أنجزت كاسر الأمواج الشرقي بطول 8 كيلومترات والغربي بـ16 كيلومتراً. ويضيف الشبلي أن المشروع سيوفر أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة للعمل في ميناء الفاو.
دجل وجدل
تجهد جهات حزبية الى تسويق مجموعة من الأفكار عبر منابر إعلامية تتركز حول ضرورة وقف أعمال الشركة الكورية المكلفة بتنفيذ ميناء الفاو الكبير، وتسليم المشروع كاملاً وعلى الفور الى الشركات الصينية. وبهدف صناعة رأي عام ضاغط، أسست هذه الجهات مجموعة من القنوات الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعية وروجت لأحلام وردية، أقلها أن واردات ميناء الفاو الكبير ستغني العراق عن بيع نفطه، أو حاجته الى أي نشاط تجاري آخر، إذ ستبلغ واردات الميناء السنوية – وفقاً لذلك الترويج – قرابة 400 مليار دولار، فيما تتهم أطراف أخرى هذه السرديات بأنها “دجل” مكشوف الغرض منه هو محاولة خلق ضغط شعبي لإناطة المشروع بالشركات الصينية، التي يبدو أنها هي الأخرى غير بعيدة عن خلق شبكة علاقات عامة للتشكيك بقدرات الشركة الكورية، وترسيخ صورة تأسيسية للميناء مرتبطة بقدرات الشركات الصينية دون غيرها.
ويجادل أنصار الشركات الصينية، بأنها لن تكلف العراق سنتاً واحداً لإنشاء الميناء، بل وإن تلك الشركات ستحول العراق الى نموذج تنموي في مجالات إعمار البنى التحتية من طرق برية وسككية وموانئ ومطارات، ناهيك عن بناء المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء، لأن الميناء، وفقاً لهؤلاء، سيكون عصب طريق الحرير الذي تسعى الصين الى تعبيده حول العالم انطلاقاً من العراق، وتحديداً من ميناء الفاو الكبير، تأسيساً على المردودات المالية الفلكية التي يروجون لها.
في حين يجادل الفريق الآخر بأن المبالغات الكبيرة في تقديرات الموارد المالية للميناء تدعو الى السخرية، ويستشهد هؤلاء بقناة السويس التي تعد المنفذ الرئيس الأكبر للبضائع بين آسيا وأوروبا والتي لا تتجاوز إيراداتها السنوية 4 مليارات دولار. ويؤكدون أن إيرادات ميناء الفاو في أحسن أحوالها ستكون ملياري دولار فقط في العام الواحد، وهو ما لا تحققه أكبر الموانئ العالمية، وأن هذا الرقم سيمثل 2% فقط من الموازنة السنوية للعراق التي يحتاج لتغطيتها نحو 100 مليار دولار.
وبينما يشكك قطاع كبير بالحديث المبالغ فيه عن واردات ميناء الفاو ويعدونها مجرد كذبة وشماعة للفساد والفشل، فإن الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل المرسومي يقول إن “البصرة في حالة إنشاء ميناء الفاو الكبير والقناة الجافة يمكن أن تكون ممراً عابراً لتجارة الترانزيت من موانئ البصرة إلى أوروبا عبر تركيا براً عن طريق شبكة سكة قطار وطرق مرورية مباشرة الى حدود تركيا، واتجاه آخر من البصرة براً عن طريق سكة حديد وشبكة طرق جديدة إلى موانئ البحر المتوسط عبر سوريا، ويمكن أن تكون البصرة منفذاً مهماً من خلال القناة الجافة لنقل جزء من تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي، والتي تزيد على 680 مليار يورو”.
ويعبر الخبير الاقتصادي عن مخاوفه من فشل المشروع بسبب قلة التمويل، وغياب الإرادة الوطنية الموحدة لتنفيذه وانعدام البيئتين
الأمنية والقانونية.
وحسب المرسومي، فإن “من شأن خروج ميناء الفاو الكبير إلى الوجود تمكين العراق أن يكون مستقطبا للسفن التجارية، إذ يمكن أن يوفر ما بين 20 إلى 25 يوماً للرحلة من شمال أوروبا إلى جنوب شرقي آسيا عبر قناة السويس، ومن ثم توفير مليارات الدولارات لاقتصاد النقل البحري العالمي، فضلاً عن تخفيض تكاليف النقل والشحن والتأمين، والتي تقدر بـ15% من قيمة البضائع.”
ويقول المرسومي إن “ميناء الفاو الكبير من المواقع الستراتيجية المهمة في شبكة النقل البحري، ليس للعراق فقط، بل للاقتصاد الدولي أيضا لأنه يمثل موقعاً متوسطاً بين أوروبا وإفريقيا من جهة وشرقي وجنوب شرقي آسيا من جهة أخرى، إذ أنه قد يحقق إيرادات متراكمة تصل إلى 100 مليار دولار خلال 22 سنة من تشغيله “.
ميناء فوق العادة
بعد مرور 11 عاماً بالتمام والكمال على وضع الحجر الأساس لبناء ميناء الفاو الكبير، عاد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي ووضع حجر الأساس مجدداً في نيسان 2021 للبدء بإنشاء المرحلة الأولى للمشروع الذي يضم 5 أرصفة للحاويات، وحفر القناة الملاحية الداخلية، وإنشاء الطريق السريع بين مينائي الفاو وأم قصر.
وفي كلمة له أثناء حفل وضع حجر الأساس، قال الكاظمي، إن “ميناء الفاو سيمنح العراق فرصاً كبيرة ويعزز مكانته الجيوسياسية في المنطقة.” وأشار إلى أن “العراق أمام مرحلة جديدة، فقد تجاوز الأزمات ويتجه نحو البناء والإعمار.” وأضاف أن “كثيرين راهنوا على إخفاق المشروع ونشروا إشاعات عدة لإحباط الشعب، لكن المشروع ينطلق اليوم رسميا بعد أن انتهينا من مراحل التخطيط والمفاوضات ومولنا المشروع من موازنة العام الحالي”.
وتؤكد الشركة العامة لموانئ العراق أن أعمال تنفيذ مشروع ميناء الفاو الكبير تجري وفق التوقيتات الزمنية المرسومة لها من قبل الشركة المنفذة.
ويقول مدير عام الشركة الدكتور فرحان محيسن الفرطوسي، إن “الأعمال ضمن العقود الخمسة الخاصة بمشروع ميناء الفاو الكبير، وهي كل من الأرصفة الخمسة للحاويات وساحة خزن ومناولة الحاويات وحفر القناة الملاحية الداخلية وحفر وتأثيث القناة الملاحية الخارجية ونفق قناة خور الزبير والطريق السريع الرابط بين ميناء الفاو وأم قصر، تجري وفق التوقيتات الزمنية المرسومة لها من قبل موانئ العراق والشركة المنفذة للمشروع”.
وفي الموقف الحكومي أيضاً، يقول وزير التخطيط، خالد بتال النجم، إن “إنجاز مشروع ميناء الفاو الكبير قد يستغرق قرابة 4 سنوات، واصفاً إياه بأنه يمثل بداية حقيقية لنهضة العراق الاقتصادية، لما يمثله من قيمة تنموية غير مسبوقة، سواء من خلال فتح الآفاق التجارية الواسعة، بين العراق والعالم شرقاً وغرباً، أو من خلال عشرات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.”
ومثله مثل معظم المشاريع في العراق الجديد، يبقى حلم الميناء معرضاً لهجمات السياسيين الفاسدين الذين يقدمون مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، وما لم تتوفر إرادة وطنية حقيقية لإنجاز هذا المشروع الحيوي والهام، فإنه سيكون محض أطلال مشروع كان يوماً اسمه مشروع الفاو الكبير.