لعل الكتابة نافذتها الوحيدة لرؤية العالم، وطرف مساعد لبقاء التواصل ممدودا نحو بلادها التي تركتها منذ 18 سنة، ولم تعد سوى مرة واحدة، كانت تتعرف على البلد من خلال كتاباتها، انها هبة الجراخ، الروائية المقيمة في بيروت. تسرد هبة لنا قصصها مع الوطن، الحب، والكتابة أبدا، الكتابة المباحة دون غيرها.
غنى وامتلاء
بداية تخبرنا هبة عن ولعها بالبالية، الرقص، وحتى الفنون القتالية، فتقول: لقد كانت بيئتنا لاتسمح بأي شيء، ما جعلني استند الى كتف الكتابة، لأعبر عما بداخلي، جدي كان شاعرا، ووالدي لم يترك مكتبته حتى وفاته، لقد كان الأمر مشاعا في منزلنا، وليس شيئا مرعبا، وهذا ما فتح لي الفرصة، برغم ان مدرستي كانت تتوسل عائلتي لتعلم البالية، او الجمباز، لكني وجدت في الكتابة ما لم أجده في شيء آخر.
تضيف هبة: كنت أقرأ قصائدي أمام الطلبة، وأساهم بقصائد “مبتدئة” في رفعة العلم، واعود الى المنزل من أجل تحضير القصيدة الجديدة للأسبوع المقبل. لقد تركت المراهقة في وطني شيئا مميزا، كنت استطيع تدوين بعض حكايات ممن اشاهدهم يحبون بالخفاء، حتى هاجرت تاركة الوطن، لتبقى هذه القصص المحفورة في رأسي، اكثرها غنى وامتلاء.
الكتابة تتنبأ
وعن الكتابة وما تعنيه لها تقول هبة: القلم وحينما يبدأ بكتابة الأحداث -غير الحقيقية- فانها تتقرب من التحول الى احداث حقيقية تعيشها وتعيشك، الكتابة مخيفة مهما حاول احدهم التعبير عن نفسه والكتابة عن حياته، سيفاجأ بكتابته لأشياء لم تحدث، هذه مهمة الكاتب، خلق الأحداث الجديدة من مواقف حقيقية. وما نكتبه يؤثر علينا، كما نؤثر عليه، انها علاقة متبادلة المصالح.
اختمار الحروف
تؤكد هبة صعوبة قدرتها على الكتابة في بداية طريقها الأدبي، عن الوطن، والوالد، كلاهما راحلان كما تخبرني، فلا تستطيع التعبير عن شيء رحل، في لحظات الانكسار، وهي تفكر بماذا ستبدأ كتابتها، وهي تتجه نحو مصيرها، تحضر السيناريو في رأسها، وفي ورقتها، انها تفعل ما ستكتب بالضبط .وتضيف: لا أستطيع الخروج من الكاتبة التي في داخلي، لأنها تساعدني حقا، رغم مزاجيتي المتأرجحة والمتذبذبة، لكوني أفضل اختمار الحروف في رأسي حتى موعد انطلاقها الى الحياة، حياة الكتابة، احفظ الوجوه والقصص والسيناريو في رأسي لفترة طويلة، احفظ كل شيء يمر أمامي، وأترك له مهلة الخروج وقتما يريد.
البحث عن الجندي
الروائي يعيش الشخوص جميعا، تخبرني الجراخ عن رؤيتها لشخص، وفي داخلها كيف انها اقتنعت انه الشخص الذي سيكون احد ابطال روايتها، ليلتفت لها، فتراه كما وصفته، بملامح كانت قد سطرتها في صفحاتها.
-انا الآن ابحث عن جندي، هل تصدقين ذلك؟ نعم جندي وهو مقاتل ضد جندي، لم اجده للحظة، لكني وقبل أن أجد صورته، كنت قد كتبت ملامحه جميعها وهذا ما ادهشني حينما وجدت صورته، تخيلت ان شخصيته ستكون كما كتبت ايضا.
معزوفة عشق
وبالحديث عن روايتها الوحيدة والتي نفدت من الأسواق، رواية “معزوفة عشق” عن دار الفارابي والتي صدرت عام 2016، ترى هبة انها المنقذ الأول، والدافع الأساس لخروجها من ازمة نفسية وصدمة، كادت تودي بحياتها.
تقول: مررت بأسوأ ايام حياتي، عدت الى الاردن للبقاء مع أهلي، اعتزلت الحياة والعالم الخارجي، كانت صدمة نفسية وعاطفية سيئة للغاية، لم أكن أخرج من غرفتي مطلقا، ولم أكن أعرف لمَ أنا هنا، اقصد على قيد الحياة، تقدم والدتي لي الطعام ولا اتناوله، حتى بلحظة واحدة، قمت بكتابة شيء ما، صفحة واثنتين، حتى شعرت اني انسجم بهذا الفعل الكتابي. الذي بقي مع عزلتي لأكثر من سنة ونصف. اتممت كتابة “معزوفة عشق” واخرجتها الى النور، دون أية تغييرات، هكذا أردتها، ان تكون مؤرخة لفترة “صعبة للغاية” في حياتي.. احداث الرواية بالتأكيد من نسج خيالي، لكني اردت لها ان تكون لاهبة، حتى وبعد عشرين سنة استطيع وكلما رأيتها، تذكر تلك الحقبة الصعبة في حياتي، وان هذه الرواية هي من ساعدتني بالتخطي. ولشكرها كل مرة!.
الإحساس بالوجع
وتبين هبة الجراخ ايضا، عملها على المشروع الجديد، وهي رواية ايضا، بنكهة جديدة، عراقية، تحاول خلالها مد يدها الى جذورها وعراقيتها، بمحاولة منها لوصولها جسر رابط بين غربتها وبلادها.
-امتلك إحساساً بالحسرة والهمّ وانا أكتب روايتي الجديدة، هذا الإحساس بالوجع، ان تحمل لعنة بلادك في جسدك حتى في غربتك، هناك بصمة بلادك عليك، هبة العراقية، وانا في الجامعة وانا عند اصدقائي وجيراني، الأمر يفرحني، ويحزنني وانا ادرك مواجهتي مع هويتي في قلبي. لم ينجح احد بايصال
الحرب.
وترى هبة أن الأدباء الشباب، او أدباء الحرب كما يجب، لم يوصلوا صورة جيدة عن العراق من خلال كتاباتهم. فتقول: كنت ارى العراق بصورة مأساوية بالغة، حين عدت، ادركت جميع المراحل التي مروا خلالها حتى اخرجوا هذا الخزين دفعة واحدة، عموما جميعنا نعالج الأمور بصورة سطحية لا تصل جيدا الى المتلقي الخارجي الذي لا يعيش معنا.