متابعة وترجمة هالة السلام /
على امتداد الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، يواجه آلاف المهاجرين العراقيين مصيرا مجهولا، وهم يصارعون الموت، حيث يتردد صدى طلقات نارية يخيف بها الجنود البيلاروسيون المهاجرين لتحذيرهم من محاولة الاقتراب من الخط الحدودي في درجات حرارة تصل الى درجة الانجماد.
ورغم الظروف القاسية التي يعيشها المهاجرون، تتوارد الأخبار عن وفاة عدد منهم نتيجة الصقيع او الإصابة بنيران القوات البولندية التي تراقبهم بحذر من خلال سياج من الأسلاك الشائكة، يحول دون عبورهم الى الضفة الأخرى من أوروبا.
إنه الجحيم
يصف طالبو اللجوء الظروف بـ “الجحيم”، هناك في الغابات والمعسكرات المرتجلة، حيث يقطعون الأغصان للحصول على الحطب وتقنين المياه للبقاء على قيد الحياة، ورغم هذا لا يريد هؤلاء العودة الى بلادهم. تقول سيدة كبيرة في السن تربض تحت سقف خيمة صغيرة “لن نعود، لقد أعطينا هناك كل شيء ولم يبق لنا ما نعود اليه، مستعدون أن نموت هنا مادام هناك أمل بحياة أفضل.”
لم يهربوا من داعش
محاولة العبور إلى الاتحاد الأوروبي هذه تضم في غالبيتها مواطنين عراقيين، لكنهم هذه المرة لا يفرون من داعش أو الحرب – كما حدث معهم عام 2015- بل يهربون من وضع تتحمله حكومتهم، من فساد سياسي وإهمال.
وفقا لمنظمات دولية، فإن هناك نحو 5000 مهاجر تقطعت بهم السبل على الحدود البيلاروسية مع بولندا، يسافر هؤلاء المهاجرون إلى بيلاروسيا لأنها واحدة من الوجهات القليلة التي يمكن للمواطنين العراقيين الحصول على تأشيرات دخول إليها عند الوصول، وهو تغيير أخير قام به رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو من أجل تسليح قضية الهجرة رداً على انتقادات الاتحاد الأوروبي له.
ترتبط بيلاروسيا بحدود طويلة مع بولندا، وتعد طريقاً أكثر أمانا للوصول إلى الاتحاد الأوروبي مقارنة بطريق بحر إيجة. من جانبها، وردّاً على ذلك، نشرت بولندا 15000 جندي على حدودها لمنع هؤلاء اللاجئين من دخول البلاد، في حين لقي العديد من اللاجئين حتفهم مع تدهور الأحوال الجوية.
منع المساعدات
وفي اتصال هاتفي (للشبكة العراقية) مع احد المهاجرين العالقين منذ أيام على الحدود البيلاروسية البولندية قال إن “درجات الحرارة شبه متجمدة، ما ادى الى حدوث حالات وفاة، خاصة بين الأطفال، اضافة الى شحة الطعام والملابس، اذ يلجأ البعض الى حرقها مع الأغصان ليشعروا بقليل من الدفء، ولا معين لهم سوى بعض المساعدات البائسة، إذ يمنع الجانب البيلاروسي وصول المساعدات الكافية الى المهاجرين، أسوة بنظيره البولندي، فقد رفضت السلطات البولندية السماح للمهاجرين بالعبور، ومنعت الصحفيين والعاملين في الجمعيات الخيرية من دخول المنطقة الحدودية المباشرة، في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات التحذيرات من قبل منظمات الإغاثة من كارثة إنسانية تلوح في الأفق.
لمَ كل هذه المخاطرة؟
لماذا يخاطر العراقيون بكل شيء للوصول إلى أوروبا؟
نحو 37000 عراقي كانوا ضمن آلاف المهاجرين الذين حاولوا دخول أوروبا حتى الآن في هذا العام – بطرق غير رسمية- وفقا لبيانات من مؤسسة القمة لشؤون اللاجئين والنازحين (lutka).يتزايد عدد العائلات التي تغادر المنطقة إلى أوروبا يوما بعد يوم، على الرغم من شدة المخاطر المتوقعة في رحلة البحث عن مأوى بديل، فقد تعرض لاجئون، سابقاً، الى مصاعب كبيرة في ليبيا، كما عانوا في مخيمات اللاجئين الإيطالية و الفرنسية، وبالرغم من وقف الرحلات الجوية المباشرة بين العراق وبيلاروسيا واطلاق حملات توعية لشرح المخاطر المرتبطة بالهجرة غير النظامية، إلا أن تلك الخطوات لم تقنع الناس او تمنعهم من طرق أبواب بديلة، عبر بيروت أو اسطنبول. على مدى السنوات العديدة الماضية، واجهت العائلات من الطبقة الوسطى في عدد من مدن العراق أزمة مالية مدمرة، أدت إلى تفاقم عدم المساواة والظلم الموجود مسبقا، إذ لم يتلق الموظفون رواتبهم منذ أشهر، وتم تخفيض أجورهم بنسبة تصل إلى 50٪ وسط خلافات سياسية حول تقاسم عائدات النفط، وبلغت البطالة أعلى مستوياتها على الإطلاق، مقابل مزايا قليلة من مؤسسات الضمان الاجتماعي.
ارتفاع الأسعار
إن ما فاقم الأزمة هو ارتفاع أسعار الوقود والسلع الأساسية والعقارات بشكل كبير، وبدأت خصخصة العديد من الخدمات العامة، بما في ذلك الكهرباء والرعاية الصحية والتعليم.
ومع استمرار انخفاض دخل متوسط العائلات، تتواصل الأسعار بالارتفاع. ويقوم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بدعم العديد من التغييرات، ضمن ما يسمى بحزم الإصلاح من قبل المسؤولين، ورغم ان هذه الإصلاحات (النيوليبرالية) ليست هي الأسباب الدافعة للفقر، لكنها أدت إلى تفاقم عدم المساواة المتزايد.
اتهامات بالفساد والمحسوبية
وقد تعرضت النخبة الحاكمة لانتقادات من قبل مراقبين محليين ودوليين بسبب الفساد والمحسوبية والاحتكار، على عكس الماضي، اذ على الرغم من الفساد، كان المواطنون ينعمون بالوقود المدعوم من الحكومة، والرعاية الصحية المجانية، والتعليم المجاني، والقروض الحكومية لمشاريع الزراعة والإسكان.
وبانت ملامح التفاؤل السياسي بسبب وجود برلمان أكثر نشاطا وصحافة حرة، إلا أنه في الآونة الأخيرة سقطت كل هذه الأشياء على جانب الطريق. ويرى مسؤول عراقي رفيع المستوى أن مواصلة الاتحاد الأوروبي دعم الحكومة والتزامه الصمت في مواجهة جميع انتهاكاتها للديمقراطية وسيادة القانون، يعطي انطباعات – لدى الكثير من المواطنين- على أنه متواطئ في تلك الانتهاكات.
اتهامات بالتواطؤ
من جانب آخر، ما تزال التوترات تتصاعد بين الاتحاد الأوروبي وبيلاروسيا، وتتواصل الاتهامات الموجهة الى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بتدبير وصول عدة آلاف من المهاجرين إلى الحدود مع بولندا منذ بداية آب من أجل ممارسة الضغط ووضع حد للعقوبات الاقتصادية التي اتخذت ضد نظامه في عام 2020.وقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، أن الاتحاد الأوروبي سيمضي “بتوسيع العقوبات” ضد مينسك، يوم الاثنين 15 نوفمبر (تشرين الثاني) خلال اجتماع وزراء الخارجية في بروكسل.كما وجد تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) مؤخرا أن شبكة من شركات السفر والمهربين، الذين يستخدمون غالبا وسائل التواصل الاجتماعي، قادرون على تنظيم الرحلات الجوية والتأشيرات إلى بيلاروسيا كجزء من صفقة شاملة.
بالإضافة إلى ذلك، تسمح بيلاروسيا الآن بالسفر بدون تأشيرة للإقامة لمدة تصل إلى 30 يوما لمواطني 76 دولة، من ضمنها العراق.وكانت هناك اتهامات بأن سلطات بيلاروسيا تسهل هذه الرحلات من أجل إثارة أزمة على طول الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، وجذب الناس بتأشيرات سياحية، وقد نفت بيلاروسيا هذه الاتهامات.
حتى أن بولندا اتهمت روسيا – إلى جانب بيلاروسيا – بمحاولة زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي من خلال السماح للمهاجرين بالسفر عبر بيلاروسيا إلى الحدود.
ما الحل؟
يتحدث الاتحاد الأوروبي عن وضع شركات الطيران التي تشارك في نقل المهاجرين على القائمة السوداء، كجزء من إجراءات لوقف التراكم على طول الحدود مع بولندا وليتوانيا.
ووفقاً للمتحدث باسم المفوضية الأوروبية “بيتر ستانو”، أن الاتحاد الأوروبي لا يراقب شركات الطيران الحكومية والمشغلين الخاصين فحسب، بل يراقب أيضا رحلات الطيران العارض، والتي يتم ترتيبها أحيانا في اللحظة الأخيرة.
لا توجد تفاصيل حتى الآن بشأن الإجراء الذي يمكن اتخاذه، لكن الاتحاد الأوروبي يقول إنه يجري بالفعل محادثات مع نحو اثنتي عشرة دولة بشأن هذه القضية.
يذكر ان الاتحاد الأوروبي قد طلب من السلطات العراقية في آب الماضي تعليق جميع الرحلات الجوية من بغداد إلى بيلاروسيا، وهو ما وافق عليه العراق لفترة محدودة.
وعلى ما يبدو فإن المهاجرين “المنسيين” وقعوا ضحية “عالقة” في شباك تلك المواجهات.لكن الحلول لهذه الأزمة ينبغي أن تكون عراقية، فقد حان الوقت لتدرك هذه السلطات أن إيرادات النفط يجب أن توجه لخدمة الناس لا الى جيوب الفاسدين، او تهدر على مشاريع تقوي وجودهم في السلطة، وتزيد مساحة نفوذهم على حساب آلام شعوبهم.الوضع أصبح خطيراً جداً في الساعات الأخيرة على الحدود البولندية، والمهاجرون العراقيون بحاجة الى من يغيثهم، فرجال الأمن البيلاروسيون بدأوا بخطف أي شاب أو أية مجموعة صغيرة تكون منفردة وبعيدة عن مواقع التجمع الكبيرة للمهاجرين، ويشك في أنهم مرتبطون بمافيات تجارة البشر، ويقومون تحت تهديد السلاح بإجبار المختَطَفين على عبور الحدود البولندية، ما قد يهدد حياتهم.. وفي حال رفض المهاجرين الانصياع لرغباتهم يرد البولنديون عليهم بإطلاق النار.