د.عبد الخالق حسن /
قرن مر على تأسيس الدولة العراقية، لكن استذكار هذا الحدث يجعلنا نتوقف أمام إحدى العلامات الفارقة الكثيرة في تاريخ العراق الحديث لا يمكن لمتابع أو باحث أن يتجاوز أو يمرَّ على هذه العلامات من دون الوقوف عليها..
أبرز هذه العلامات ثورة العشرين، أو الثورة العراقية الكبرى، التي جاءت بعد سنوات قلائل من وقوع العراق تحت سلطة الاحتلال البريطاني التي أبعدت العراق عن حكم العثمانيين المنطوي بعد حربٍ عالميةٍ شهدت هزيمتهم، وكان من نتائجها تقاسم مناطق نفوذهم، وأرغمت البريطانيين على الإقرار بحق العراقيين بوجود حكومة وطنية ينبغي أن تمثلهم.
وبغض النظر عن الحكايات الكثيرة التي رافقت أسباب اندلاع هذه الثورة، فهي تمثل في وجه من وجوهها المهمة محطةً صادمةً للبريطانيين الذين استعملوا أبشع أنواع القمع والقسوة المفرطة ضد من شارك فيها.
الوعي الوطني
الاكتشاف المبكر الذي اكتشفه من قام بالثورة هو الوعد الكاذب والخادع الذي أطلقه الجنرال مود، قائد الحملة البريطانية، حين قال إنَّهم جاءوا محررين لا فاتحين، وهي كلمة تنم عن دهاء البريطانيين الذين يعرفون جيداً أنَّ العراق بعمقيه الحضاري والإسلامي يميز أهله جيداً بين مفهوم التحرير ومفهوم الفتح.
لهذا كانت الهدنة أقصر مما كان يظن البريطانيون لتندلع الثورة وتعم أرياف العراق وصحاريه ومدنه. وهنا تكمن المفارقة التي تحدث عنها الدكتور علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، إذ يقول الوردي إن العراق لم يشهد طيلة مرحلة الاحتلال العثماني انتفاضة أو ثورة شارك فيها أهل المدينة مع أهل الريف أو العشائر.
علينا هنا أن نؤشر حالة الوعي الوطني المبكرة التي كانت تتحرك داخل نفوس زعماء العشائر المنتفضة. وهذا طبعاً، يمثل سياقاً اجتماعياً مختلفاً عمَّا هو شائع بين زعماء العشائر الذين كانت سمة الإقطاع هي السائدة بينهم. إذ المعروف والشائع عنهم أنَّهم يتعاملون ببراغماتية مع من يكون حاكماً، لكنَّ ثورة العشرين أثبتت العكس، مثلما أنَّ هذه الثورة حظيت بتأييد ديني واسع من مختلف توجهات رجال الدين، وتحولت إلى مايشبه التضامن الوطني ((فقد شوهدت العمامة إلى جانب الطربوش والكشيدة، إلى جانب اللفة القلعية والعقال، إلى جانب الكلاو وكلهم يهتفون يحيا الوطن)) مثلما قال الوردي.
البريطانيون أدركوا الأمر
المهم لدينا هنا أنَّه برغم فشل الثورة، إلَّا أنَّ البريطانيين فهموا صعوبة الأمر، لهذا استعجلوا إيكال الأمر إلى حكومة عراقية مؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب الذي ترأس أيضاً المجلس التأسيسي الملكي بناءً على توصيات المندوب السامي البريطاني (بيرسي كوكس)، الذي كان يدير الحكومة في الباطن هو والمس بيل. وكان إلى جانب كل وزير في حكومة النقيب مستشار بريطاني هو الذي يدير الوزارة فعلياً (وهذا الأمر يذكرنا بما حصل بعد سقوط النظام في ٢٠٠٣ حين كان المستشارون الأميركيون هم المتحكمين بعمل الوزارات أيام سلطة الحاكم المدني بول بريمر).
صراع بين تيارين
مع رسوخ الاحتلال البريطاني والمباشرة بتشكيل الحكومة العراقية، كان هناك تياران يتصارعان على شكل الحكومة: تيار عروبي كان متكوناً من ضباط عراقيين عُرفوا برفضهم سابقاً للاحتلال العثماني، ولاحقاً رفضوا الاحتلال البريطاني، وكانوا يرون أنَّ ربط العراق ببريطانيا يعني أنَّ العراق خرج من احتلال ليقع في احتلال وتبعية جديدة، وأن الواجب، بحسب رأيهم، أن يندمج العراق مع محيطه العربي الذي يمثل الامتداد الطبيعي له. أما التيار الآخر فكان متكوناً من ضباط وساسة مدعومين من المس بيل، وهؤلاء دعموا فكرة ارتباط العراق ببريطانيا لأنَّها ستعمل على تحديث العراق بعد الخراب العثماني الكبير، وكان رأي هذا التيار هو الغالب، إذ ربطت بريطانيا العراق بها من جميع النواحي، وكانت تحاول إرضاء العراقيين من خلال تنصيب ملك عربي عليهم، وكذلك مباشرتها بمشاريع كثيرة مازال أغلبها قائماً، كالسدود مثلاً. وهي هنا طبعاً كسبت أيضاً الزعامات العشائرية وحيَّدت الكثير منهم بعد أن أسهمت هذه السدود في إصلاح الكثير من الأراضي التي منحتها بريطانيا لهذه الزعامات.
لقد حاول الكثير من المؤرخين والباحثين لاحقاً أن يقللوا من شأن ثورة العشرين ويطعنوا بها، كونها كانت حركةً لا واعية أو مبنية على حس عشائري لا يهتم كثيراً بمفهوم الوطنية، وأنَّ هذه الثورة رسخت الاحتلال أكثر فأكثر، لكنَّهم هنا يفصلون الثورة عن سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه، ويحاكمونها بقوانين الثورات اللاحقة التي أفرزتها التحولات الثقافية والفكرية الكبرى، وهذا أمر يظلم كثيراً هذه الثورة التي وحدت العراقيين وألهبت حماسهم الوطني.