مرضى “إبن رشد” بلا مستشفى!

د.قاسم حسين صالح/

لا يعرف العديد من العراقيين ان بناية مستشفى ابن رشد الذي تديره وزارة الصحة، تعود ملكيتها الى أول طبيب نفسي عراقي بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، هو المرحوم الأستاذ جاك عبودي شابي. وقد تبرع بها الى جمعية الهلال الأحمر العراقية.
وكانت مستشفيات العراق حتى منتصف القرن الفائت تحمل أسماء المتبرعين بها مثل المرحومين كمال السامرائي والشيخ زايد.. فيما حملت أخرى أسماء رجال دين.
والحق ان الطبيب جاك عبودي، كان انسانا نبيلا قدم خدمات جليلة في الطب النفسي، وتعافى على يديه عشرات الآف من المرضى، وكان يستحق أكثر من العالم ابن رشد ان يقام له تمثال في واجهة المستشفى، يخلد عطاءه وذكراه.
اتصال مع القمر
بعد غيابي سنتين عن الحبيبة بغداد، دعيت لتكريمي بجائزة التنوير الثقافي لعام 2016 في أمسية نواسية معطرة برائحة المطر على ضفاف دجلة الخير الذي اختليت به وغسلت وجهي بمائه العذب وسقيته دموع فرحي وأنا جالس على سفحه.
في اليوم التالي قصدت مستشفى ابن رشد.. لأستعيد بعضا من ذكرياتي فيه يوم كنت اصطحب طلبتي بقسم علم النفس ليختبروا ما تعلموه نظريا عن الاكتئاب والهستيريا والفصام.. في معايشة ميدانية مع المصابين بها لا تخلو من مفاجآت ومفارقات، منها انني اتيت لهم برجل مصاب بأوهام ليتحدثوا معه.. وحصل ان أتته رجفة قوية وهو يتحدث معهم فاغمي على احدى الطالبات وهربت أخريات خوفا.. بعد لحظات عاد الرجل لوضعه الطبيعي فقلت لهم اسألوه عن الذي حصل له.. فأجاب معتذرا انه قد جاءه لحظتها اتصال مع القمر!
الصدمة
وحين التقيته في مكتبه أخبرني الدكتور علي مدير المستشفى بان هنالك قرارا بالغاء المستشفى ودمجه بمستشفى الرشاد (الشماعية). صدمت خاصة أن سبب إلغائه هو أن بناية مستشفى ابن رشد تعود لجمعية الهلال الأحمر ولم يتم دفع بدلات ايجارها من سنوات. والمفارقة ان جمعية الهلال الاحمر كانت قد حصلت على أوامر قضائية في عامي (2006 و 2007) بالاخلاء، وكان تسديدها ميسورا لأن ميزانية الدولة حينها كانت بالترليونات.. فاين كانت دائرة صحة الرصافة حيث المستشفى يعود لها؟، وأين كانت ادارة المستشفى وجمعية الأطباء النفسانيين العراقيين؟.
مفارقة
والمفارفقة الأوجع، ان العراقيين هم اكثر خلق الله تعرضا لكوارث وحروب متلاحقة على مدى (36) سنة، زادتها فواجع فقدان احبة بعضهم تطايرت اشلاؤهم أمام اعينهم.. ما يعني ان نسبة تعرضهم للصدمات والأمراض النفسية والعقلية هي الأعلى في العالم، وان الحاجة للانسانية والأخلاقية تستوجب ان نفتح مصحات نفسية جديدة لا ان نغلق اكبر مستشفى نفسي في العاصمة بغداد قدّم خدمات لملايين العراقيين عبر تأريخه الذي يمتد عقودا، ويستقبل يوميا اكثر من مئة حالة تتنوع بين مصابين باضطرابات وصدمات نفسية ومدمنين على الكحول والمخدرات التي ارتفعت من 20% في عام 2002 الى 70% في عام 2004 بعد ان فتحت الحدود وصارت المخدرات تباع على الأرصفة. اذكر لحضراتكم من دراسة كشفت لنا أن البطالة والقهر وضغوط الحياة اكثر الأسباب شيوعا بين المراهقين لتعاطي المخدرات، حالة مراهق في الخامسة عشرة تعرّف على شخص يعيش نفس المعاناة اقترح عليه ان يأخذ (حبة) تنسيه همومه وتريحه.. (وافقته بعد تردد، وشعرت بالراحة النفسية بعد دقائق، ولم اعد أفارق هذه الحبة السحرية كما كنت اسميها.. وشيئا فشيئا تطور ادماني وصرت في اليوم الذي لا احصل فيه عليها تتحول حياتي الى جحيم). ولقد شاعت حبوب (الكبسلة) بين الشباب والمراهقين والأطفال ايضا.. وكان لمستشفى ابن رشد الذي تولى معالجة هذه الحالات الفضل في الحد من هذه الحالات.
حقائق
ثمة ثلاث حقائق علمية نضعها أمام من يعنيه الأمر:
· تزداد الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية في اثناء الحروب وبعدها
· هنالك علاقة طردية بين البطالة وبين الانحرافات السلوكية وتعاطي المخدرات والتورط بأعمال ارهابية.
· يؤدي الانفلات الأمني والخوف من التفجيرات والعنف والتهديد وزيادة معدلات الجريمة الى القلق عند الكبار واضطرابات النوم عند الأطفال.
ان هذه الحقائق متوافرة في العراق بابعد مدياتها وبأقسى وأوجع حالاتها، ما يعني ان على متخذ القرار بالغاء مستشفى ابن رشد (وهو مستشفى تعليمي ايضا يقدم اليه الأطباء دراساتهم في الماجستير والدكتوراه والبورد) ان يدرك بأنه لا يرتكب فقط جريمة انسانية وأخلاقية بحق العراقيين، بل يضاف لها أن بغداد من دون ابن رشد.. ستعج بـ (المكبسلين والمخابيل)!