عامر بدر حسون/
انجبت حرب تحرير الفلوجة، كأي حرب، أشياء كثيرة طيبة وسيئة، وكثر اللغط حولها داخليا واقليميا.
اللغط، وكالعادة، اخذ بعدا طائفيا ونسجت من خلاله كثير من القصص السلبية والايجابية.. الصادقة والكاذبة.
الجديد في هذه الحرب تمثل في أن وضع المدنيين في الفلوجة وانقاذهم أخذ الدور الأهم، فقد غُيّرت خطط عسكرية وبدلت مواعيد معارك وقدمت تضحيات هائلة بسبب الحرص على انقاذ المدنيين.. وهذا أمر جديد في حروب العراق والعرب عموما.
وينبغي الإقرار أن لا وجود لحرب «نظيفة»، فالحرب بحد ذاتها شر مستطير، وهي تأكل الأخضر واليابس، فكيف اذا كانت حربا مع تنظيم مجرم كداعش يتحصن في بيوت العائلات ويستخدم المدنيين كدروع بشرية ولا يتورع عن أية جريمة؟
برغم ذلك انجبت هذه الحرب بعض الصور والأفلام المهمة جدا التي تستحق التخليد في تاريخ الحروب.
أكثر هذه الصور اثارة للمشاعر الإنسانية الراقية، في تقديري، لهاتين الصورتين نظرا لعفويتهما والارتجال في توثيقهما.
الصورة الأولى لأمرأتين ايزيديتين اختطفهما داعش فاحتمتا عند تحريرهما بصدر هذا الرجل كما تحتمي البنت بصدر أبيها.
الجندي في لحظة كهذه انخرط في البكاء كما يبكي الأب عندما تشرح ابنته الآلام التي مرت بها. هي صورة كاملة للألم وللإحساس بالأمان والخلاص.. لقد انتهى الكابوس وتطهر الجميع بدموعهم من أوزار تلك المأساة.
اما الصورة الثانية فقد كانت شيئا جديدا لم يشهده العراق والعالم من قبل. هي صورة تمثل ارتجال الشهامة والغيرة وهي تتحدث عن عادات وقيم عراقية.
الصورة تظهر انحناءة جندي وركوعه على الأرض ليأخذ شكل عتبة تدوس عليها النساء الهاربات من داعش، عند نزولهن من السيارة أو عند صعودهن (توجد أفلام وصور أخرى لهذه العتبة المقدسة).
في حالات الهرب، وخصوصا في الحروب، يتم تجاوز الكثير من القيم والاعتبارات وتمتد يد الجنود للمساعدة بأية طريقة وبغض النظر عن حجم التماس الجسدي بين الرجال والنساء، ويعتبر ذلك امرا عاديا ومقبولا ومفهوما.
لكن الجنود والنساء هنا من بيئة واحدة، بيئة عشائرية تضع الكثير من الضوابط لتماس رجل مع امرأة. وماكان لجندي ينقذ امرأة (غريبة) يحرص على سلامتها أن يتجاوز تلك الحدود التي تربى عليها. بالتأكيد أنه لم تطلب امرأة فلوجية من هذا الجندي أن يركع وينحني كي تدوس عليه.. لا يمكن لهذا أن يحصل حتى في السلم، لكن الجندي هو الذي انحنى وركع واعلن نفسه “جسرا للطيبات” من الأمهات والأخوات.
لقد تكرر هذا الفعل في مواقع عدة ، وعندما تعرض الصورة على أجانب ستكون بحاجة للشرح والتفسير:
– “لم لم يحمل الجندي هذه الصبية او تلك العجوز بيديه”؟
وستشرح وتتحدث عن القيم العشائرية التي تحدد علاقة الرجل بالمرأة، وكيف أن تلك القيم اوحت لهذا الجندي بابتكار هذه الركعة والانحناءة كي تدوس عليها الصبية والعجوز والطفل؟
روعة ورمزية وقوة هذه الصورة أنها تأتي من منطقة حرب شرسة.. حرب لا تعرف الحدود والممنوعات لأسباب كثيرة في مقدمتها أن الخصم فيها هو داعش الذي لا يعرف حدودا للجريمة.
السؤال الآن:
– لماذا نسمح لهذه الصورة أن تمر هكذا مثل مئات آلاف الصور الجيدة والسيئة القادمة من ساحة تلك الحرب؟
لماذا لا تقوم وزارة الدفاع والداخلية بتكريم هذا الجندي أو الشرطي كتكريم له ولاخوته على اجتراحهم هذا الفعل الكريم؟
لماذا لا تتم استضافته في البرلمان كي يقدم للنواب والسياسيين درسا عن الحدود التي لا ينبغي تجاوزها بين أبناء البلد الواحد مهما كان عمق خلافهم؟
لماذا لا تقوم نقابة الصحفيين بتكريمه وطبع مئات الالاف من النسخ لهذه الصورة وتعليقها على جدران العاصمة والمدن كرمز ومثال لعمق الفعل الانساني حتى في أشرس الحروب؟
لماذا لا تقوم جمعية المصورين بترشيح هذه الصورة للاشتراك في المسابقات العالمية للتصوير باعتبارها أفضل حكاية عن العراق؟
لماذا لايقوم اتحاد الأدباء والمنظمات الثقافية باستضافة الانسان البطل، الجسر، علّ ثقافتنا تقترب من الفعل الانساني وتتخلص من روح التعصب والتهويمات البائسة؟
هناك ألف لماذا لألف جهة ووسيلة إعلام عما يمكن القيام به.
هي ليست صورة عابرة على الاطلاق.. هي رمز لما يمكن أن يفعله تعميم صورة انحناء القوة وبمنتهى التواضع للأم والأخت والابنة كي تمر بسلام من جحيم التطرف الى طمأنينة التسامح والمحبة؟
صورة كهذه عندما تلقى على مدينة الموصل بالطائرات، يمكن أن تغني عن الاف المنشورات التي تلقيها القوات الجوية على الموصل بين فترة وأخرى، وهي صورة تعد أهل الموصل بجسر المحبة الذي ينتظرهم عندما تقترب ساعة الخلاص بدلا من تعميم داعش لصور سلبية واجرامية حصلت في الفلوجة، واريد لها ولتضخيمها أن تحصر قواتنا المسلحة في تلك الصور.