إياد السعيد/
في طفولتنا.. وامتداداً لشبابنا، كنا نرتاد طريقاً يمتد لما يقرب من ثلاثة كيلومترات، يبدأ بتقاطع ساحة عدن وينتهي بأحد أركان متنزه الزوراء، ما يطلق عليه اليوم طريق مطار المثنى.
كانت هذه ممارسة روتينية في الجمع والعطل ومع بداية الامتحانات حين كنا نراجع دروسنا، نتنفس هواءً نقياً ونجلس تحت أشجار ضخمة تتطاول بالارتفاع، من اليوكالبتوس، او ما نطلق عليه القلم طوز والسدر والتوت، ونلتقط ما يسقط من ثمار السدر والتوت حسب الموسم، والتمر من عماتنا الباسقات المتناثرات بينها.. وحين نتعب من المسير كنا نجلس لنستظل تحتها فنلعب ونمرح وكأننا في أحضان أمهاتنا.
بعد عشرين عاماً مررتُ بهذا الطريق، وإذا به شبه صحراء، فلا أمهات ولا عمّات، قفرٌ من كل أخضر سوى شجيرات حديثة الزرع من صنف مؤذٍ يسمى (الكاربس)، أوراقه دبقة لزجة يغطيها سخام العوادم من دخان المركبات المارة في الطريق. وقد نتساءل: أين اختفت هذه العمالقة؟ حتى وإن ذبلت أو ماتت وأهملت، فليس بهذه السهولة تلاشيها، هل ثمة أيدٍ خفية وراء هذا الفعل؟ لكن للأمانة لمحتُ بعضها فرادى منتصبة، ولكن حزينة.
ليس هذا هو الطريق الوحيد في بغداد أو العراق، بل هو شاهد على ما حصل من قتل للحياة الخضراء في العراق نتيجة إهمالها، والعبثية التي تتيح لأي مواطن او مستثمر أن يفعل ما يشاء بالأشجار والمساحات الخضر بلا رقيب أو قوانين تلجم هؤلاء المخربين وتحاسبهم.
تشير وزارة الزراعة العراقية إلى أن العراق بحاجة إلى 14 مليار شجرة لإحياء المناطق المتصحّرة!! رقم ضخم يكاد لا يصدّق.. لكنها الحقيقة المرة التي يجب أن نصدقها ونعمل بها لكيلا نختنق، فأراضينا أصبحت مقفرة جافة صماء لا حياة فيها سوى حركة المركبات الملوثة للهواء والقاتلة لكل ما هو أخضر.
وعيٌ أخضر جميل
ثمة حملات يتبناها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، مفرحة وتزرع الأمل الذي اقتلعته أيدي العبث بجهل، أو لمصالح خاصة ضيقة حرمتنا من نعمة الهواء النقي والجمال الطبيعي. فقد بدأ المواطن يشعر بحاجته إلى الشجرة بعد مواسم جافة وزحف القمامة وتسيّد الآلة الملوثة للبيئة بكافة أخطارها، فكانت مبادرات رائعة في بغداد والمحافظات برغم تواضعها، بزرع مئة شجرة، أو ألف، لكنها بادرة طيبة تحتاج الى إنضاج من المهتمين والجهات الحكومية في اختيار الصنف والنوع والموسم للشجرة التي تناسب أجواء العراق الجافة وشحيحة المطر، لتمنح الظل بامتداديها العمودي والأفقي. وربما يتفق الناشطون على شجرة (الألبيزيا)، التي تصنف ضمن الأشجار والشجيرات المدارية والاستوائية السريعة النمو التي توجد أنواعها في آسيا وإفريقيا وأستراليا وأميركا الجنوبية والوسطى والأجزاء الجنوبية من أميركا الشمالية، وهي متوفرة بعدة أنواع في مشاتل العراق وسعرها رخيص جداً مقارنة بأسعارها في العالم نتيجة لتكثيرها في مشاتلنا، مقارنة بالأصناف الأخرى، فهي مقاومة للجفاف وكثيفة التوريق وسريعة النمو.
المدرس (أحمد الزيداوي) غرس منها ثلاث شجيرات قبل أربع سنوات، والآن يستفيد من ظلها في ركن سيارته وسيارة جاره (د. حازم) الذي أشاد بأحمد قائلاً: “كانت مبادرة عظيمة من جاري حين زرع هذه الأشجار، وسأكون ممتناً له ما حييت، وقد طلبت منه أن أقوم أنا بسقيها ومراعاتها طوال حياتي.” أما الحاجة (أم سامر)، فقد تبرعت بمبلغ خمسين ألف دينار لشراء 25 شتلة جديدة من الألبيزيا، وكلفت ابنها سامر للتعاون مع أحمد في شتلها داخل شارعهم، شجرة أمام كل منزل.
ما أجمل أحلامنا وأنقاها فهي خضراء نقية..