“آكل واشرب وزينب مشت عطشانة” الراحلة أم مزهر.. الســـائرة عشقاً

نجم الخزعلي/
ما إن يطرق مسامعك صوتها الطفولي الرقيق، حتى تظن أنه لفتاة يافعة. صوت ملائكي مشبع بالعذوبة والحزن والتفجع. بيد أن المفاجأة حينما تعلم أن هذا الصوت هو لزائرة الإمام الحسين عليه السلام (أم مزهر)، التي ناهز عمرها المئة عام.
سارت هذه المرأة نحو ضريح سيد الشهداء في الزيارات الأربعينية، مع كبر سنها، ثماني عشرة مرة متتالية، يدفعها إلى ذلك عشقها وولاؤها لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حين ترى ضآلة جسدها الذي عركته السنون، تكاد لا تصدق أن بإمكانها إكمال هذه المسيرة الشاقة الممتدة من محافظة ديالى صوب كربلاء سيراً على الأقدام، حتى أن أولادها أرادوا منعها خشية عليها من الانهيار، لكنهم كانوا يتراجعون في كل سنة أمام إصرارها، وتهيبهم من الإمام الحسين عليه السلام، ففي الآخر هي زائرته، والمعجزات باتت عادية جداً في طريق سيد الشهداء.
حين سألوها عن ذلك، انقشعت سحائب الغرابة وأسقط ما بأيدي الجميع، حين قالت بصوت يشوبه الحزن والامتنان في آن، إنها كلما أحست بالتعب تشعر أن يد زينب عليها السلام تدفعها إلى الأمام، فتواصل الطريق بكل همة ونشاط وسط ذهول الكثيرين.
الشيء الذي يثير الإعجاب حقاً في هذه المرأة، هو وعيها المتقد معرفة بحجم المصيبة التي جرت على بيت فاطمة وعلي عليهما السلام، هدفها واضح موسوم بالمواساة. فحين يقال لها “هلا تأكلين قليلاً أو تشربين؟” تجيب بصوت باك وبلهجة شعبية لأم حانية: “آكل واشرب وزينب مشت عطشانة؟” وإن قيل لها “اركبي في إحدى السيارات ولو لجزء من الطريق.” تجيب بنفس الصوت المتفجر حزناً وألماً: “أركب؟ مادام زينب مشت آني أمشي.”
يقول أحد أولادها إن حالة والدته الصحية تدهورت قبل خمس سنوات بسبب انسداد شرايينها، وكان ذلك قبل الأربعينية بخمسة عشر يوماً، الأمر الذي دفع الطبيب إلى القول إن عليهم توفير الراحة لهذه المرأة المسنة، لكونها قد تفارق الحياة في أية لحظة، بيد أن ما يثير الغرابة هو أن (أم مزهر)، وقبل زيارة الأربعين باثني عشر يوماً قالت لأولادها إن أحد الأشخاص قد زارها في المنام وأخبرها أن تخيط رايتها وتذهب إلى الزيارة، وفعلاً ذهبت ولم تشعر بأي عارض، وزارت بعد هذه الحادثة لخمس سنوات متتالية.
كل هذه الأحداث في كفة، ووعي (أم مزهر) في الكفة الأخرى، وهذا ما دفعني إلى الكتابة عنها، فحين ترى الطين الذي يصبغ (چرغدها) ومقدار الحزن والبكاء المرافق لها في سيرها، وامتناعها عن الأكل والشرب سوى ما يسد الرمق، فضلاً عن امتناعها عن الركوب وإصرارها على مواساة زينب ماشية، فإن كل هذا يدفعك إلى القول إن هذا هو المقصود في العبارة الموجودة في معظم زيارات أئمة الهدى عليهم السلام (جئتك زائراً عارفاً بحقك)، فعلى بساطتها، عرفت (أم مزهر) حق إمامها وحق سيدتها زينب، واستشعر قلبها عظم المأساة التي جرت في كربلاء، فلم يكن منها إلا أن تنذر جسدها البالي الذي لا تملك غيره ليذوب عشقاً في طريق الحسين وزينب عليهما السلام، حتى التحقت بهما في العام الماضي وهي تلهج دامعة (اجيت لكربلاء أواسي زينب)، فسلام عليها يوم سارت عشقاً ويوم رحلت وفية عارفة إمامها.