(أسطوات) يمتهنون حرفة (الجفقيم) بغداد تستعيد هويتها العمرانية

ريا عاصي/
تصوير / علي الغرباوي/

قلب بغداد القديمة، ومحلاتها التراثية باذخة الجمال، التي أبدع الحرفيون في بنائها منذ عقود طوال، تشهد منذ فترة حملة إعمار واسعة لإعادة رونقها، وإبراز تفاصيل عمارتها، التي تنتمي إلى فن العمارة العباسية، حين كانت بغداد أجمل مدن العالم.

تأسست بغداد في عام 762 م، كمدينة مدورة تحت إشراف الخليفة ابو جعفر المنصور، وبسبب ظروف قاهرة وحوادث وحروب، طمست معالم هذه العاصمة العالمية، إلا أن عمارتها ظلت أنموذجاً متطوراً يحتذي به في جميع مدن العالم، وما سامراء، وأصفهان، ومراكش، والرباط، حتى غرناطة في بلاد الأندلس، إلا محاولات عمرانية كانت تطمح للوصول إلى بهاء بغداد وأناقتها، عبر استخدام موروثاتها ونقوشها وطابوقها المفخور المنحوت يدوياً.
ملامح بغدادية
لا يمكن لأي زائر لبغداد إلا أن يندهش حين يرى القصر العباسي والمناطق المحيطة به، أو عند الوقوف أمام المدرسة المستنصرية، أبنية صارت من أبرز ملامح العمارة البغدادية بهندسة سبقت عصرها آنذاك، إذ يدخل النور أرجاء قاعاتها وحجراتها بطرق تغنيك عن الإنارة الصناعية، كما أن الهواء تنقله تيارات الحمل من غرفة إلى أخرى دون عناء، وتزين زواياه أجمل (المقرنصات) التي نحتت بأيدي أمهر (الأسطوات).
وقد برزت منذ ذلك الزمن حرفة امتهنتها عائلات بغدادية محددة، ألا وهي حرفة (الماطلي) أو نحت (الجفقيم)، وبرز من هذه العوائل (أسطوات) أسهموا بشكل فاعل في بناء وتطوير وتوسعة مدينة بغداد، التي تغيرت كثيراً منذ إنشائها كمدينة مدورة مع سورين دفاعيين وأربع بوابات رئيسة.
حِرف متوارثة
شهدت بغداد، بعد سقوط الدولة العباسية، دخول تأثيرات جديدة على عمارتها، كانت مستمدة من العمارتين البويهية والسلجوقية، اللتين سيطرتا على بغداد في فترات لاحقة، وامتازت بعض مآذن الجوامع بهذين الطرازين المعماريين حتى يومنا هذا.
وحين غزا العثمانيون العراق وسيطروا على عاصمته، أضافوا أبنية عديدة فيها من روح العمارة العباسية، البغدادية، أقيمت على أطلال أخرى قديمة، منها (القشلة) و(السراي)، وهما من الرموز العثمانية المتاخمة للقصر العباسي.
خلال فترة الانتداب البريطاني، وبعد الاستقلال في 1932، شهدت بغداد تطورات عمرانية جديدة، مع بناء العديد من المباني الحكومية والجسور على نهر دجلة. وظهرت لنا محطة القطار التي مزجت بين الطابع الأوربي والبناء البغدادي، أشرف على بنائها مهندسون معماريون بريطانيون، فيما نفذ الأسطوات أعمال البناء. وبعد تأسيس كلية العمارة على يد المهندس محمد مكية، بقي المعمار العراقي يستند في أعمال البناء الى البغداديين الذين توارثوا حرفتهم من أسلافهم محترفي (الماطلي أو الجفقيم).
وسط البلد
يتحدث المعماري محمد الصوفي، الاستشاري في مشروع (نبض بغداد) الطامح لاستعادة ألق العمارة البغدادية، عن المشروع لمجلة (الشبكة العراقية) قائلاً: “المشروع يحاول خلق فضاءات (الداون تاون)، أو وسط البلد، المشهورة في معظم العواصم والمدن القديمة، كإنشاء ممرات للمشي وفضاءات تمكنك من رؤية العمارة القديمة على أصولها كما يقال.” موضحاً أن “الاعتماد على نجاح المشروع كان من خلال الاستعانة بأسطوات (الماطلي)، لأنهم حملة هذا الإرث العظيم، هذه الحرفة التي شارفت على الانقراض، لعزوف الشباب عنها، باعتبارها متعبة وتحتاج إلى صبر كبير.”
سعى الإنسان، منذ أن بدأ ببناء أول مأوى له، إلى التأقلم مع بيئته المحيطة، وتجلّى هذا التأقلم في استخدام المواد المتوفرة محلياً واعتماد تقنيات بناء توفر الحماية من الظروف الطبيعية مثل الحرّ والبرد والأمطار، مع تقليل التأثيرات السلبية على البيئة. وكان البيت البغدادي أحد رموز فن العمارة البيئية أو المستدامة، كما يطلق عليها اليوم. إذ استمد المعمار العراقي الموروث البيئي في بناء منزله، الذي يوفر لساكنه بيئة نقيه صحية، تقيه حر الصيف وبرد الشتاء، دون حاجته لاستهلاك طاقة إضافية، وتمنحه إنارة طبيعية، وتوفر له ألفة وخصوصية داخل فناء منزله (الحوش)، الذي يضم حديقة صغيرة، ومصدر مياه يوفران لساكنيه اندماجاً مع الطبيعة. كما اهتم المعمار العراقي بإضفاء أصناف من النقوش والزخارف الفنية، التي تميز منزله عن المنازل الأخرى، معتمداً على زينته في النقوش والزخارف التي ينفذها الأسطوات يدوياً بحرفية عالية تجعل من الطابوق قطعه فنية فريدة.
أسطوات بغداد
في قلب بغداد، التقينا (الأسطة) وسام (أبو عباس)، حرفيٌ في أواسط الأربعينيات، يعمل مع أبنائه في ترميم واجهات الأبنية التراثية المطلة على ساحة السراي، الذي تحدث عن مهنته وبداياته قائلاً: “عملت مع والدي الأسطة (أبو وسام) منذ كان عمري سبع سنوات، في البدء تعلمت إعداد الخلطة التي تصنع لترميم الجدران، وهي مزيج من الجص والنورة تسمى (الماطلي)، بعدها علمني والدي عملية تطبيق (الفرشي)، ومن ثم كيفية نحت الطابوق والفرشي وتشكيل النقشات والزخارف، وطريقة إضافة السيراميك والحزوز الملونة، وقمت بدوري بنقل هذا العلم والفن إلى أبنائي.”
تأثيرات بيئية
أدت الثورة الصناعية في أوربا مطلع القرن التاسع عشر، واكتشاف النفط واستخدامه، إلى جانب اختراع الكهرباء وتعدد تطبيقاتها، إلى ابتعاد العمارة تدريجياً عن البيئة الطبيعية، وانفصالها عن الالتزام بموجباتها.
هذا الانفصال والتطور السريعين في أساليب البناء على مدى قرن ونصف القرن، أسفرا عن تأثيرات بيئية سلبية تراكمت مع الزمن. فقد أصبحت صناعة مواد البناء واستخدام المباني مسؤولة عن نحو 50% من انبعاثات الغازات الدفيئة واستنزاف طبقة الأوزون، بالإضافة إلى 50% من إجمالي النفايات الصلبة و40% من تلوث البحار والأنهار. إلى جانب المشكلات الأخرى الناتجة عن التوسع العشوائي للمدن الكبيرة.
في العقود الأخيرة، عانت بغداد من تحديات كبيرة بسبب الحروب والحصار الاقتصادي، ما أثر على حركة العمران. لكن مع ذلك، استمرت المدينة في التوسع والنمو. يقول (أبو عباس): “في العقود الأخيرة عزف أسطوات بغداد عن تعليم أبنائهم المهنة، وذلك لأسباب عدة منها دخول المواد الإسمنتية والمكننة في البناء، وابتعاد الناس عن استخدام الخامات القديمة إلا القلة القليلة منهم، أولئك الذين استمروا في تعمير المساجد والمراقد الأثرية ومنهم والدي.” مضيفاً: “لكننا اليوم نشهد عودة إلى الجذور، إذ أعمل مع أفراد عائلتي في ترميم العديد من المباني التراثية، مثل ملوية سامراء والأضرحة الممتدة في جنوب ووسط العراق، كما أن بعض الناس بدأوا يحبون العودة إلى البناء البغدادي عن طريق تشكيل واجهات منازل بـ (الجفقيم) والاعتماد على الطابوق (الفرشي) العراقي الذي يعد ملائماً للبيئة.”
(أبو عباس) أشار في حديثه إلى أنهم يستخدمون اليوم بعض الآلات اليدوية والكهربائية التي تسهل عملهم مثل (الدريل والكوسرة والمقياس الليزري)، دون الاستغناء عن المطارق والمحافر والمالج وكل شيء يدوي في العمل، مضيفاً: “عملنا يتطلب منا الصبر والدقة العالية، ونحتاج في حرفتنا إلى حب الحرفة والشغف بها لكي نبدع فيها.” معرباً عن خشيته من عزوف الشباب عن هذه المهنة، وتفضيلهم السرعة والتقنيات الحديثة، في وقت بات العالم فيه يحاول تركها والعودة إلى الموروث.
عودة إلى الجذور
انشغل العالم في السنوات الأخيرة بأزمات المناخ، ومنها التلوث البيئي وارتفاع درجات الحرارة، اللتان تعدان من أكبر التحديات التي تواجه الكرة الأرضية حالياً، وأثبتت الدراسات أن واحداً من أسباب ذلك كان الخرسانة، والمواد الصناعية المستخدمة في بناء المدن واستحداث الشوارع. لذا سارعت البلدان المتقدمة لدراسة كيفية الاستعاضة بالبدائل الطبيعية التي تعد إحدى أقدم وأهم وأنظف طرق بناء عرفها العالم.
تشهد بغداد اليوم تطوراً مستمراً في مجال العمران، مع مشاريع جديدة لتحسين البنية التحتية وبناء مجمعات سكنية وتجارية حديثة. لكن التحديات الأمنية والسياسية لا تزال تؤثر على حركة التوسع، ومع ذلك فإن جهود إعادة الأعمار مستمرة لتعزيز مكانة المدينة كعاصمة حديثة ومركز حضاري مهم.
قلة هم من دونوا عن (أسطوات بغداد)، من بينهم أحد المهتمين الألمان في بداية القرن العشرين، كما ذكرتهم الباحثة (سيسليا) في كتابها عن عمارة بغداد، وكتب عنهم المعماري إحسان فتحي.
اليوم، لا توجد سوى عائلتين مازالتا تمارسان هذه المهنة العظيمة، وبعزوف الشباب عنها ستندثر قريباً، في وقت يسعى العالم لاهثاً للعودة إلى جذور وأصول الحرف اليدوية.