رغد عبد الزهرة/
أغلب من يسمع بمسألة التشابه الجيني بين الإنسان وبين القردة أو الفأر أو النبات، يعترض على عدم معقولية الفكرة، برغمَ أنها ليست فكرة قابلة للخطأ والصواب بقدر ما هي حقيقة مدعمة بالنتائج المختبرية، والسبب هو قلة المعرفة العلمية بموضوع الجينات.
بحسب النتائج المختبرية فإن نسبة التشابه الجيني بين الانسان وقردة الشمبانزي 98.8% أو قردة الريسس 93% وبين الإنسان والفأر بنسبة 92%، وبين الإنسان والنبات بنسبة 12% وحتى بين الإنسان والفطر الذي يعلو هذهِ النباتات بنسبة 26%،
الحامض النووي
والجينات – ومفردها جين- هي الوحدة الوراثية للكائن الحي، التي منْ خلالها يتم نقل الصفات من جيل إلى آخر بالوراثة. كل جين مسؤول عنْ نقل صفة وراثيّة معينة مثل لون العين، طول القامة، وحتى الأمراض الوراثية، وكل واحد من الجينات هذهِ طبعاً بنسختين واحدة من الأم والأخرى من الأب. فكل المعلومات اللازمة لبناء جسم الطفل من مرحلة البيضة وحتى بلوغه نضجهِ عند ولادته، ومن ثم حياته الباقية حتى فنائهِ، كل المعلومات مُشفرة في ما يُعرف بالحامض النووي DNA وهذا الحامض عبارة عن شريطين مرتبطين ببعض طويل للغاية لدرجة أن قراءته تحتاج قرناً كاملا! يتم لف هذا الشريط في الجسم بهيئة أصبعين متلاصقين بشكل يشبه حرف X وتعرف هذهِ الأشكال بالأجسام الصبغية أو ما يُعرف بالكروموسومات داخل النواة، ويتم نقلها وتوارثها عبر الأجيال.
التشابه بين الكائنات
إذن، كيف حدث أنّ جيناتك التي تكونّكَ كإنسان على هرم الكائنات الحية، تُشابه جينات كل الكائنات الأخرى على الأرض بهذهِ النسب المختلفة؟ كيف يُعقل أن أنساناً عاقلاً وواعياً وله القدرة على التفكير والكلام والحركة بحرية أن يشبه في تركيبه الجيني القردة وحتى الفطريات؟
الجواب هو أنّ الحامض النووي وهو وسيلة نقل الصفات الوراثية، واحد عند كل الكائنات، فلا يوجد كائن يوّرث ابناءه صفاته بطريقة أخرى، وهذا ينطبق على ابسط الكائنات في الطبيعة ابتداء من البكتريا حتى الإنسان، تختلف فقط الشفرات التي تكون هذا الكائن ليصبح زرافة تكون جيناتها مُشفرة لقلب ضخم ورقبة طويلة، بينما يُشفر الحامض النووي للإنسان لقلب أصغر ورقبة أقصر. ومع بعض الأختلافات الطفيفة فإن عمليات الإنقسام للحامض النووي متشابهة بين الكائنات.
من أجل أن يُسهل فهم موضوع التشابه هناك نقاط مهمة قلما يتم الإشارة إليها:
أولاً: قلنا أن الحامض النووي هو الوسيلة الوحيدة لنقل الصفات، لذا يكون الأختلاف في الجينات هو ما يُحدد شكل الكائن، والحامض النووي مكون فقط من 4 قواعد نتروجينة، وكل ثلاث قواعد تُسمى جين، وبعملية رياضية بسيطة يتبين أن هناك فقط 64 شكلاً ممكناً للجينات في الطبيعة – بضرب الرقم اربعة للأس ثلاثة- لذا من الطبيعي تكرار هذهِ الجينات مادام الحمض النووي وقواعدهُ واحدة في كل الكائنات.
ثانياً: أن عدد القواعد النتروجينة في الحامض النووي لدى الإنسان هو 3 بلايين قاعدة نتروجينة والبليون أكبر من المليار إذ يضم 12 صفراً، لذا فأن أختلاف بحجم 2% ليس أختلافاً يُستهان بهِ إلى هذا الحد. إذ يعني هذا أن بين كل مائة جين في جسمك هناك جينين يختلفان عن جينات الشمبانزي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بروتيناً واحداً لكي يتكون في الجسم قد يحتاج وحده لما يقارب المائتي جين!
فك الشفرة الوراثية
النقطة الثانية: موضوع “التعبير الجيني” وهو عملية فك الشفرة الوراثية في الحامض النووي من صيغتها الجينة إلى الصيغة المظهرية “من النمط الجيني إلى النمط الظاهري بكلمات أخرى”
التشابه في الصيغة الجينية لا يعني بالضرورة التشابه المظهري، خذ مثلاً، مقطعا طوليا في طبقات الجلد ومقطعا آخر في الدماغ لنفس الشخص، من يرى المقطعين يبدو لهُ أن لا تشابه بين الإثنين على الأطلاق لا من حيث المظهر ولا من حيث الوظيفة، إذ يختلف عمل الجلد عن عمل الدماغ، لكن الموضوع المثير للإعجاب هو أن الخليتين تحملان نفس الشفرة بتطابق تام مائة بالمائة! لكونهما في الأساس للشخص نفسه، لكن يكمن الاختلاف في كون كل خلية تُعبّر جينياً بطريقة مختلفة بما يتناسب والوظيفة التي يُفترض أن تؤديها!
النقطة الثالثة: البشر بالعموم متشابهون جينياً بنسبة 99.9% مع هذا تجد بينهم الأسمر والأبيض وطويل القامة والقصير، وتجد الصفات والشخصيات المتنوعة والأمراض الوراثية المختلفة ووو.. الخ من الإختلافات، هناك أسباب أخرى للإختلاف بين شخصين أثنين غير الجينات والتعبير الجيني وهو تنوع الأحياء المجهرية في جسم الإنسان.
مقابل كل خلية بشرية في جسمك هناك ما يقارب عشر خلايا من كائنات مجهرية تكونّك، فالإنسان عبارة عن نظام بيئي متنوع لا يتكون من الخلايا البشرية فقط، بل من حشد من الكائنات الدقيقة، وهذهِ الكائنات سواء أكانت بكتريا أم فطريات أم طفيليات فهي تؤثر بشكل هائل على الإنسان، وتدخل حتى في تركيب جيناته، وتؤثر فيه في عدة نقاط منها أنتاج مواد معينة مثل بعض النواقل العصبية مثل السيروتينين وهو مادة كيمائية خاصة بالتوازن النفسي والاستقرار. كما تؤثر في انتاج وفعالية العديد من الهرمونات، وتؤثر حتى في جيناتك على صعيد ما فوق الجيني “الإبجينتك” اي نشاط الجينات وطريقة التعبير عنها!