أمواج الجاذبيّة تسافر بسرعة الضوء

وضاح الموسى/

هي عبارة عن تموّجاتٍ في نسيج الزّمكان ناتجةٌ عن أكثر الأحداث عنفاً في الكون. تنبأ “أينشتاين” بوجود هذه الأمواج عام 1916 من خلال نظريّته النّسبيّة العامة، حيثُ تُظهِر المعادلات الرياضيّة لأينشتاين أنّ الأجسام الهائلة الكُتلة والمُتسارعة (مثل الثّقوب السّود والنّجوم النّيوترونيّة) ستقوم بتشويه النّسيج الزّمكاني على شكلِ أمواجٍ تنتشر على مدى الفضاء مبتعدةً عن مصدرها. تماماً مثل رمي حجرةٍ في بركةِ ماء وظهور أمواجٍ مبتعدةٍ عن مكان سقوط الحجر.

تسافر هذه الأمواج عبر الكون بسُرعة الضّوء، وتحمل معها معلوماتٍ عن الأحداث الكارثيّة التي صدرت منها، كما أنها تكشف بعض الأسرار الخفيّة عن طبيعة قوّة الجاذبيّة نفسها.
أقوى الأمواج الجاذبيّة يتمُّ إنتاجها عن طريق الأحداث الكارثيّة في الكون مثل تصادُم الثّقوب السّود وانهيار النّجوم الضّخمة على نواتها (السّوبرنوفا) أو اندماج النّجوم النّيوترونيّة مع الأقزام البيضاء ودوران النّجوم النّيوترونيّة التي لا تملك شكلاً كروياً مثاليّاً. كما أن بعض الأمواج الجاذبيّة باقيّة منذ ولادة الكون لحظةَ الانفجار العظيم.

الدليل الأول

بالرّغم من التّنبؤ بها منذ عام 1916 إلا أنّ أوّل دليلٍ فعليٍ على وجودها لم يظهر حتّى عام 1974 بعد وفاة العالم أينشتاين، في ذلك العام اكتشف فلكيّان يعملان في مرصد Arecibo Radio Observatory في بورتوريكو نظاماً ثنائياً من النّجوم النّابضة. وهو زوجٌ من النّجوم النّيوترونيّة الثّقيلة والشّديدة الكثافة تدور حول بعضِها. من المُفترض حسب معادلات أينشتاين أن يُصدِر هذا النّظام أمواجاً جاذبيّة فكانت هذه فرصةً رائعةً للتأكد من تنبؤات أينشتاين.
بدأ العالمان بمراقبةِ تغيّر سُرعة دوران هذين النّجمين على مدى 8 سنواتٍ من خلال مراقبة إشارتهم الرّاديويّة، وبدى أنّ النّجمتين تقتربان من بعضِهما تماماً بنفس السُرعة التي تتنبأُ بها النّظريّة النّسبيّة. حتّى اليوم استمرت مراقبة هذا النظام لأربعين عاماً ومازالت القيم التي يحصل عليها العلماء من الإرصاد تنسجم مع ما تتنبأ به النّظريّة النّسبيّة العامة لأينشتاين. فلا بدّ إذن من أنّ هذا النّظام يصدرُ أمواجاً جاذبيّةً أيضاً.
منذُ ذلك الحين صدرت العديد من الدّراسات لهذه الإشارة الرّاديويّة وكلّها كانت تزيدُ تأكيدَ وجودِ الأمواج الجّاذبيّة، لكن كل هذه التّأكيدات كانت نتيجة دلائلٍ غيرِ مباشرة، أي عن طريق المعادلاتٍ الرياضيّةٍ وليس عن طريق دليلٍ فيزيائيٍّ ملموس.

الإكتشاف الأكبر

بقيت الأمور على هذه الحال حتّى 14 سبتمبر عام 2015 عندما قام المرصد LIGO (Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory) بالتقاط أوّل موجة جاذبيّة بشكلٍ مباشر، حيثُ رصد تغيّراتٍ في نسيج الزّمكان ناتجةٍ عن مرور موجةٍ جاذبيّةٍ خلال الأرض. وكانت هذه الموجة ناتجةً عن اندماج ثُقبين أسودين يبعدان عنا 1.3 مليار سنةٍ ضوئيّة. سيُذكَر الإكتشاف الذي حققه LIGO على مرّ التاريخ كأعظم الاكتشافاتِ العلميّةِ في تاريخِ البشر.
يمكن لهذه الأمواج أن تكون خطيرة وقادرة على تدمير الأرض، لكن من حُسنِ حظّنا أنّها بعيدة عنا ومع وصولها إلى الأرض يكون لها تأثيرٌ أضعف بملايين المرّات من القُدرة على إحداث أي تأثيرٍ يُذكر. في الواقع إنّ تأثيرها ضفيفٌ جداً لدرجةِ أنّ التّشوه الزّمكاني الذي رصده LIGO أصغر بآلاف المرات من نصف قُطر نواةِ ذرّة الهيدروجين. تخيّلوا مدى الحساسيّة الهائلة التي يجب أن يتمتع بها LIGO ليتمكّن من رصد هذا التّأثير الصّغير!

لماذا نحتاجُ رصد الأمواج الجاذبيّة؟

ستمكننا الأمواج الجاذبيّة من دراسة الأحداث العنيفة للكون برؤيّةٍ جديدةٍ لم نكن نملكُها من قبل. هذا سيعطينا فهماً أعمق لهذه الأحداث وتجاوز العديد من القيود التي كبّلت أبحاثَ الفلكيين لعشرات السّنين.
على مرّ التّاريخ اعتمد الفلكيّون بشكلٍ رئيس على الأشعّة الكهرومغناطيسيّة (مثل الضّوء المرئي والأشعّة تحت الحمراء وأشعّة غاما وغيرها) لدراسة الأحداث الفلكيّة والأجرام السّماويّة. في السّنوات الأخيرة قاموا باستخدام جسيماتٍ خاصة دون ذريّة اسمها (نيوترينات) لدراسة بعض الظّواهر الفلكيّة. يستخدم العلماء هذه المصادر المُختلفة من المعلومات من أجل الحصولِ على أشملِ رؤيةٍ مُمكنةٍ للكون أو الحدث الفلكي المدروس.

طريقة لفحص الكون

الأمواج الجاذبيّة ليست أشعّة كهرومغناطيسيّة بل هي ظاهرةٌ مختلفةٌ كلياً، فهي تحمل معلوماتٍ عن الأجسام الموجودة في الكون غير المعلومات التي تحملها الأشعّة الكهرومغناطيسة. مثلاً الثّقوب السّود المتصادمة لا تصدر إلا مقداراً ضئيلاً جداً من الأشعّة الكهرومغناطيسة (وقد لا تصدرها أبداً). لكن أمواج الجاذبيّة التي تُصدرها ستجعلها “تلمع” بشكلٍ أكبر مثل مناراتٍ وسط بحرٍ كونيٍ مظلم.

والأهم من ذلك أنّ الأمواج الجاذبيّة ذاتُ تفاعلٍ ضعيفٍ جداً مع المادة (على عكس الأشعّة الكهرومغناطيسيّة)، لذلك تستطيع السّفر مسافات شاسعة عبر الكون من دون أن تتأثّر بأي عوائق مما يعطينا صوراً واضحةً للأحداث الكونيّة من دون التّغبيش أو التّشويش الذي تُعاني منه الأمواج الكهرومغناطيسيّة عند سفرها بين المجرّات.
هذه الطّريقة الجّديدة لفحص الكون ستسمح لنا برؤيّة ما عجزنا عن رؤيته سابقا في الكون. وستزيد من قدرتنا على فهم بُنيّة الكون وطبيعة الزّمان والمكان.

ماذا بعد؟

ما الخطوة القادمة بعد الإنجاز العظيم الذي حقّقه مرصد LIGO؟

كما ذكرنا سابقاً دخل مرصد LIGO التّاريخ بأوّل عمليّة رصد مُباشر للأمواج الجاذبيّة. وبذلك فتح لنا مصدراً علمياً جديداً تماماً في دراسة الكون وهذا الإنجاز الكبير ما هو إلى خطوة أولى على طريقٍ طويل.

يملك المرصد LIGO لذراعين طول كل واحد منهما 4كم، على طرفي كل ذراع توجد مرآة ويتم قياس المسافة بين المرآتين بواسطة أجهزة ليزر متطوّرة. عند مرور الموجة الجّاذبيّة تتغير المسافة بي المرآتين بمقادرٍ بسيطٍ جداً لا يتعدى ربع قطر نواة الهيدروجين. تقوم أجهزة الليزر المتطورة بالتقاط هذا التّغيير البسيط للكشفِ عن الموجة.
لكن كلّ هذه الدّقة الرّهيبة لا تكفي سوى لرصدِ الأمواج الجاذبيّة التي لها تواتر قدره 100 هرتز. وهي الأمواج التي تصدرُ عن تصادُم ثقوبٍ سود صغيرة لا تتعدى كُتلتها 30 من كُتلة الشمس تقريباً.

لكن إذا أردنا رصد الأمواجٍ الجاذبيّةٍ أكبر ناتجةٍ عن تصادُم ثقوبٍ سود هائلةِ الكُتلة (ملايين وحتّى مليارات من كُتلة الشمس) فالمرصد الأرضي بذراع 4كم لا يكفي. بل سنحتاجُ لمرصدٍ بطول ذراع 1 مليون كم، لا يمكن بناء مثل هذا المرصد على كوكب الأرض لأنه كوكب صغير لا يتعدى قطره 12,742 كم، فجاءت فكرة بناء مرصدٍ للأمواج الجاذبيّة في الفضاء وسمي هذا المرصد (Laser Interferometer Space Antenna) LISA.

خطوة أولى

وكأنّ بناء مرصدٍ على الأرض لم يكن صعباً كفايّة، فإن بناء المرصد LISA في الفضاء يتطلب مواجهة تحدياتٍ تقنيّةٍ صعبةٍ جداً. فالمرصد يتكوّن من ثلاث مركباتٍ فضائيّة تدور حول الشّمس والبعدُ بين كلّ اثنتين مليون كيلو متر تماماً. سيتم وضع هذه المركبات في أماكن مدروسة بدقّة بحيثُ لا تتغير الأبعاد فيما بينها بسبب المؤثرات الخارجيّة وإنما بسبب الأمواج الجّاذبيّة حصراً. وتقاس الأبعادُ فيما بينها بواسطة أجهزة ليزر متطوّرة فائقة الحساسيّة.
أوّل خطوةٍ على هذا الطّريق هو المركبة LISA Pathfinder التي تم إطلاقها عام 2015 للتحقق من إمكانيّة تنفيذِ مشروعٍ صعبٍ مثل LISA واختبارِ بعض التّقنيّات التي يمكن استخدامها، ولقد أعطتنا هذه التّجارب الكثير من النّتائج الجّيدة التي تشجع على المضي قدماً لبناء المرصد في الفضاء.

حقبة جديدة

نحن على عتبة حقبةٍ جديدةٍ في دراسة الفضاء وفك ألغاز الكون. في نهايات القرن السّادس عشر كان العالم غاليليو أول من استخدم التّلسكوب في دراسة السّماء. كل ما عرفه البشر عن الفضاء قبل غاليليو لم يتعد ما تعّلموه بالعين المجرّدة. واليوم نحن أمام عصر جديد، كل ما عرفه البشر قبل LIGO لم يتعد ما تعلّموه من رصد الأشعّة الكهرومغناطيسيّة (ومنها الضّوء) واليوم أصبح لدينا حاسّةً جديدةً نستكشفُ بها العالَم من حولنا وهي الأمواج الجاذبيّة.